الأحد، 14 نوفمبر 2010

رقصــــات الجـــنون - من مجموعة المسافات المفقودة




رقصــــات الجـــنون

يتقدم الموكب مشرئبا ، الأطفال الحفاة يتدفقون من بين أزقة القرية عابرين الأكوام الموحلة ، الغبار يتطاير فوق جبين الموكب ، سيل من الرقصات يجرفهم بطوفان الفوضى ، الخفير "سيد الوحش" حاملا بندقيته القديمة لدواعي الأمن والنظام ، يتحسسها من وقت لآخر وابتسامة عريضة تتلوى فوق شفتيه فتظهر أسنانه المتآكلة ، عيون جوعى تتطلع للأسطح المتراصة بالعذراوات . الأشجار العارية المتساقطة الأوراق تحيط بالقرية من كل جانب ، الكهرباء أنارتها قريبا ، ضوؤها خافت مرتعش ، العروس يخفي رأسه خلف الخفير " سيد الوحش " ، وصل الموكب أخيرا إلى نهاية المطاف أمام ساحة "كدابين الزفة " كما يطلق عليها أهل القرية . كانت "عزيزة " بنت عم "محمدين" تطل من فوق سطح دارها المقابل للساحة ، خصلات شعرها المتناثرة تكاد تخفي معالم وجهها ، تتطلع إلى الشمس وهى تسقط من سمائها مختفية خلف جذوع الأشجار البعيدة ، أدارت رقبتها بصعوبة فضاعت نظراتها الثكلى بقلب دائرة الموكب المتوثبة . كانت عيونه تنهش سطح دارها في الخفاء ، أخفت وجهها بين كفيها ، لاحقتها العيون الفاضحة ، نجحت في اكتـشاف ما تخفيه عن الآخرين ، تساقطت حبات عرقها في حلقها الجاف . كان طعمه لاذعا . قالت لها أختها الصغيرة وعينيها مثبتة على صدر الموكب .
ـ عايزة أروح الفرح .
أجابتها بصوت خافت متقطع .
ـ هتموتي تحت الرجلين .
فزعت الصغيرة من طلقات نارية طائشة انطلقت من فوهة بندقية الخفير " سيد الوحش " فجأة ، هرولت في هلع نحو أختها " عزيزة " تستجير بها ، احتوتها بين أحضانها وهى شاردة الفكر ، زعق والد العروس بصوت جهوري .
ـ الجــوزة ياواد يا شـحاتة .
الموكب دائرة كبيرة منبعجة في إحدى نقاطها المواجهة لبيت " عزيزة " ، تعالت الصيحات بعد صعود الراقصة على " المسرح " . كانت دعائمه مصنوعة من أرائك الجيران ، من محيط الدائرة البشرية الملتوية امتدت أيادي كثيرة ملوحة للراقصة ، تصاعدت معها الهتافات بعد اندلاع الرقصات المحمومة ، أيضا تسابقت فوق رؤوسها أجنحة دخان كثيفة ، في التو خرست الرقصات بعد صعود والد العروس على "المسرح"  ، لفته نظرات مترقبة ، أخرج من جيبه أوراقا مالية كثيرة ، أبرقت عيون الموكب .
ـ ســلام يا جــدع ... أكبر سلام للعمدة ... عم العريس ... وسلام مربع لشيخ الخفر أبو العروســة .... ودقي يا مزيكــا .
دس والد العروس الأوراق المالية في صدر الراقصة ، اضطرمت الصيحات ، نهض الخفير " سيد الوحش " صاعدا على "المسرح "، تراقص رقصات هزلية وهو يرفع بندقيته عاليا في الهواء . كان راقصا بارعا ، نافس شيخ الخفراء والعمدة في رقصاتهم ، تشابكت يداه بيد الراقصة ، اشتعلت الصيحات ، تسللت بندقيته من بين راحتيه فسقطت تحت قدمىْ الراقصة ، فاضت الدائرة البشرية بنشوى الفرح ، تمايلت على نغمات "الموسيقى " الصاخبة . كانت تهز قلوب العذارى وتذيع ما بداخلهن من أحلام وهن يتربعن على أسطح البيوت المطلة على الساحة ، انسحبت الأضواء فجأة من عيون الدائرة المفتوحة على مصراعيها ، علت فوق جبينها الاستغاثات . قالت الصغيرة لأختها بكلمات مذعورة .
ـ أني بخاف من الضلمة .
أصابت كلماتها قلبها النازف ، احتضنتها فى صمت ، تساقطت قطرات ساخنة من مقلتيها ، ابتلعتها دوامات أفكارها الحادة ، مزقت ملابسها بين أسنانها الناهشة ، غاصت بين شطآن قهرها ، هربت الصغيرة من بين أحضانها ، تتعثر في خطواتها ، أفزعتها الدائرة البشرية الغارقة في ظلامها ، انكمشت داخل نفسها ، أشاحت بوجهها فسقطت نظراتها فوق مئذنة بعيدة ، ينبعث من رأسها الشاهقة ضوء خافت ، اشتعلت الأضواء من جديد بقلب الدائرة البشرية ، تقابلت عينا " عزيزة " بعينىْ  "العريس" ، بفوضى هرب من نظراتها المسمومة فسقطت فوق والده المشغول بإصلاح "الجوزة "، بلذة شدّ منها نفسا عميقا ، توهجت الجمرات فوق رأسها ، أخذت " عزيزة " تلاحقه بنظراتها المذبوحة ، سرعان ما ضاعت بين العيون النهمة ، دون أن تدري جرفتها موجة من موجات " الموسيقى " الصاخبة ، أخذت ترقص بمجون جارف ، كادت تهوي في قلب الدائرة البشرية ، الصغيرة تراقبها بعينين فزعتين ، همسات فاضحة تسري داخل الدائرة ، تنشب أظافرها في قلبها الجريح ، تسقط ثم تنهض بصعوبة ، رقصاتها المحمومة لا تتوقف ، تعرت من ملابسها دون أن تدري ، بأنفاس لاهثة مدت ببصرها إلى الفراغ الذي يحتويها . كانت خيوط سوداء قاتمة محفورة في وجـه الســماء .
     

القــــطــار - من مجموعة مسافات مفقودة



القــــطــار

جسمه أملس ناعم ، عيناه واسعتان تكشف مخاطر الطريق في الظلام ،لغات و أصوات  مبهمة تهب من جوفه ، أفرغ من رأسه صفارات مزعجة في أذن الهواء ، أرجله لا تكف عن الدوران . أشعة الشمس تبسط نفوذها فوق رأسه ، دائما ماض في نهب طريقه ، كتلة لحم  انصهرت في بوتقته ، أرجله الثقيلة تختلس خطوات وئيدة على شريطه الصلب الممتد عبر الأبصار ، أحدهم يجري خلفه محاولا اللحاق به، سقط على الأرض ، نهض ثم جرى وجرى ، قفز في الهواء متعلقا بأحد أبوابه بينما آخرون يشيعون جنازته في صمت بعد أن أدركوا أنه قد فاتهم 0 كان الصراع والخلاف دائما على مقعد خال يغتنمه أحدهم قبل منافسه . نظرت الأم بأنفاس مكتومة تجاه الشبح المعلق بالخارج . كان هناك آخرون يمتطون ظهره ، احتضنت طفلها بحرارة ، المحصل يشق طريقه بصعوبة بين أجساد المسافرين ، ثمة متسول يصيح بكلمات يحفظها عن ظهر قلب مرتديا ملابس غيرت من شكله .
ـ لله يا محسنين لله .
امتلأ جيبه ولكن صيحاته ما زالت تتوالى ، قهقهات تنبعث من ركاب الدرجة الأولى ، كانت هناك فتاة فائرة لولبية تطقطق بين أسنانها قطعة من " اللبان" ، وجدت ما كانت تبحث عنه ، همس الشاب في أذنيها ، القطار ماض في شق طريقه بين القرى الباهتة ، بيوتها متصدعة ، أعواد القش تملأ سطوحها ، التراب يغطي وجهها ، الأطفال تسبح في أكوام الروث ، البيوت متداخلة متلاصقة  مع بعضها البعض بينما عمارات شاهقة تنفرد في أحد الأماكن الأخرى ، البائعون داخل القطار لا يكفون عن الصراخ ولكن المعلم "كموشة " أكثرهم تميزا يمسك قطعة من الحديد يدق بها طرقات متتالية على دلوه الذي يحمله على كتـفه .
ـ كوكاكولا . مثلجة . روق دمك ....
يدفع الركاب بكرشه المنتفخ ، يفتل شاربه المعقوص بين الحين والآخر . رصدت الأم المطواة البارزة من بين ملابسه ، أشاحت بوجهها عنه ، ضمت طفلها إلى صدرها الذي راح في النعاس ، عجلات القطار تدور بسرعة ، تذكرت الشبح المعلق على الباب ، سألت عنه ، الأفواه مغلقة ، الوجوه مكسوة بظلال شاحبة ، صرخ أحد المسافرين .
ـ فلوسـي ..... فلوســي ....
لم يسمع غير صدى صوته ، الأم تخبئ طفلها بين ذراعيها ، حرارة الجو تـلفح وجوه المسافرين ، رائحة العرق تملأ أنوفهم ، زفرات حارة تنبعث منهم ، نظرت الأم خارج النافذة ، الوحل يسد الطرق الكثيرة الضيقة ، أعواد الذرة غارقة  في حقولها ، الدواب هزيلة متناثرة ، تترنح بخطوات ميتة ، المعلم " كموشة " يغادر الدرجة الثالثة متجها إلى ركاب الدرجة الأولى ، المسافرون يفسحون له الطريق ، الأم ترمى بنظراتها عبر نافذة القطار ، إلتقت عيناها بمبنى ضخم منعزل تتطلع من خلف نوافذه أشباح صفراء ، تنسكب من عيونهم نظرات ميتة ، كانت هناك لافتة مكتوب عليها .
ـ السجن العمومي .
اشتعلت في رأسها الأفكار ، ضمت طفلها إلى صدرها ، مسحت على رأسه ، فرت قطرات ساخنة من عينيها، بللت وجه طفلها ، قبلته بحنان ، صيحات تنبعث من ركاب الدرجة الأولى ، يدخنون بلذة و شراهة ، يتطلعون من خلف ستائر نوافذهم ، الفتاة اللولبية تنادي على المعلم "كموشة" :
ـ كوكاكولا .
أجابها بصوت هادئ متكلف :
ـ اتفضلي .
كانت تجلس متلامسة مع رجل اقتنصته أخيرا بعد أن انصرف الشاب الأول ، القطار يجري بخطوات متلاحقة ، أخلدت الأم إلى النوم ، أحد البائعين ينادي :
ـ سجائر ، حلويات .
جذبت انتباه الطفل قطع الحلوى ، سال لعابه ، تسلل من بين ذراعىْ أمه ، عاد المعلم "كموشة " إلى الدرجة الثالثة ، لا يكف عن السباب واللعان ، بدأ القطار يهدئ من سرعته ، استيقظت الأم على صوت أحد الحمالين .
ـ شيال ... شيال .
أخذت تـفرك عينيها ، رأسها يدور . توقفت عجلات القطار ، أخذت الأم تثرثر مع طفلها ، خرست قبل أن تنتهي من كلماتها الأخيرة ، حملقت في الطفل ، تفرست الوجوه ، همست في ضعف قائلة .
ـ ده مش "مرزوق" ؟
دارت بها الأرض دورات سريعة متلاحقة ، اهتزت الرؤية أمامها ، احتبست صرخات داخلها ، المسافرون أشباح تتراقص بعنفوان ، تتعثر فى خطواتها ، رمت بحقيبتها وسط زحام المسافرين ، دوامات حمراء تنمو فتغرق فيها ، أمسكت سكينا كانت قد وجدته في يدها ، قفزت بسرعة تطعن أشباح المسافرين بسكينها الحاد ، الأشباح تقهقه قهقهات عالية ، سقطت على الأرض ، خر السكين من بين يديها ، تفحصته فجأة ، لم يكن سكينا بل كان بقايا رغيف خبز يقتات منه الطفل .


القلب المسروق

رواية


إهداء


”إلى كل من يحمل قلبا مفعما بالحب والتغيير الخلاق المثمر على أرض واقعنا الذليل"



القلب المسروق (1)

موكب الرئيس يخترق شوارع المدينة . حرسه يحيطه من كل جانب ، عشرات السيارات أمامه ومن خلفه لتأمين حياته ، الرئيس يختار حرسه وأمنه بعناية فائقة ، ينفق عليهم ببزخ ، الطريق كلها مغلقة على بعد بضعة كيلو مترات لحساب موكب الرئيس" مهووس " ، الحياة متوقفة فى قلب مدينة الأحلام عاصمة دولة منغوليا الوسطى حتى يمر الرئيس بعون الله وسلامته الى القصر المنغولى . نائبه السيد " زعزوع " يرافقه فى نفس السيارة . لم تكن مثل السيارات الآخرى . إنها سيارة مصفحة ، لايستطيع المعارضون أو المعوقين النيل منها ، ربما سيلقى الرئيس خطابا فى شعب دولة منغوليا الوسطى من قصره أو سيكون فى إستقبال مسئول مهم من دولة شرشوحة العظمى أو دولة كوهين الشيطانية ، إقترب الموكب بثقة وكبرياء من ميدان الحرية .كان يضم تماثيل زعماء منغوليين سابقين لدولة منغوليا الكبرى ومؤسسها السيد " منغول  الأكبر " . تفتت تلك الدولة على مدى العصور السابقة الى دويلات صغيرة ، أبرزها دولة منغوليا الوسطى . ربما أطلقوا عليها هذا الإسم لأنها تتوسط كل الدول المنغولية بما فيهم منغوليا الشمالية ومنغوليا الجنوبية والشرقية والغربية . الدولة المنغولية الكبرى هذه كانت من قبل يطلقون عليها أيام الأجداد الدولة الفردوسية الكبرى ، بمرور الزمن تحول شعبها من فردوسى الى منغولى . بعض الشعوب فى مختلف الدول المنغولية بما فيهم دولة منغوليا الوسطى لم يتحول الى منغولى وظل محتفظا بهويته الفردوسية . توقف موكب الرئيس " مهووس " فى قلب الميدان . هبط من سيارته الفارهة متجها نحو تمثال السيد منغول محييا ومعظما ، طقوس تعود عليها الرئيس " مهووس " وربما الرؤساء المنغوليين السابقين ، يعتقد أنه يستمد منهم العزيمة والإصرار وربما الإلهام والقوة . كثيرا من جماهير شعب منغوليا الذين أجبروا على الوقوف ومتابعة الموكب يتطلعون بضيق وإستنكار . الرئيس " مهووس " يتوقف أمام قدمى تمثال السيد منغول الأكبر ، أحنى رأسه بايماءة خفيفة . نائبه السيد " زعزوع " يقلد بطريقة آلية ، بطنه ممتدة الى الأمام ، وجهه شمعى خال من أى تعبيرات ، لاتعرف مايدور بداخله ، يخفيها عن الآخرين بضحكات بلهاء ، دائما ينفذ تعليمات الرئيس " مهووس " دون تفكير ، لم يختلف معه يوما من الأيام ، على الأقل يبدى ذلك . هبت رياح عاصفة محملة بالأتربة والرمال فجأة ، دائما تهب عليها تلك العواصف دون سابق إنذار . طقس دولة منغوليا الوسطى متذبذب ، ربما كل الدول المنغولية لايثبت على حال واحد ، أحيانا تأتى الفصول الأربعة فى يوم واحد ، شعبها هو الآخر تأثر بذلك المناخ الغريب المتقلب والمتذبذب دائما . تغير وجه السماء ، أصبح يغلب عليه اللون الأحمر القانى والأسود القاتم . تلك العواصف لم يكن لها موسم أو وقت محدد ، قد تهب فى فصل الربيع الذى فقد خواصه وظواهره مثل بقية الفصول ، لقد تغير طقس منغوليا الوسطى وكل الدول المنغولية التى تلاصقها بما فيهم دولة كوهين الشيطانية المغتصبة لأراضى منغولية . أيضا أصبحت الزلازل والبراكين تصيبها بين الحين والآخر . كان أفظعها وأكثرها تدميرا ودموية البركان الذى أصاب دولة منغوليا الوسطى فى عهد الرئيس الراحل . أسفر عن تلوث بيئتهم بما فيه النهر الكبير . لقد أصبح مشوها كالأطفال المنغوليين بعد أن تعرضوا للعنف والقهر الذين أطلقوا عليهم هذا الإسم مؤخرا ، إزداد تشوههم بعد أن تم حشو رؤسهم بأفكار غريبة ملوثة مستوردة ، لم تستطع عقولهم التأقلم معها ، نمت هذه الأطفال المشوهة بإضطراب وفوضى ، أصبحوا فتيانا وشبابا ، تزوجوا وتكاثروا بشكل وبائى . كانت تغلب عليهم جميعا الصفات المنغولية ، سرعان ما تحول غالبية المجتمع بمرور السنون الى شعب منغولى ، لم ينجو منه إلا الرافضون لهذه الأفكار المتوحشة وتمسكهم بقيمهم وعاداتهم الفردوسية ، أيضا كانوا حريصين على التزاوج من بعضهم فنتجت أسر صحيحة نجت من كل هذه التشوهات . كان الغبار يحجب الرؤيا عن العيون فى ميدان الحرية بمدينة الأحلام بأسرها من جراء تلك العاصفة الخائنة ، تقدم نحو الرئيس " مهووس " مجموعة من القناصين يحملون أسلحتهم المخادعة عندما كان يحنى رأسه أمام تمثال السيد منغول الأكبر ، ظن حرسه أنهم اتو لتحيته وربما كان معدا ذلك من قبل الأمن ، لم يدر بخلد الرئيس أن أسلحتهم متخمة بالذخيرة الحية ، مجرد التفكير فى قتله أمر غير وارد بمخيلة الرئيس " مهووس " ، تقدموا نحوه بجرأة وشجاعة ، تقابلت عينيه بعيني القناص " إسلام الكاشف " ، دوت طلقات نارية مباغتة ، حدث هرج ومرج بميدان الحرية ، ظن الكثيرون أن العاصفة قد حطمت تماثيل الرؤساء ، بعدما تصاعد إطلاق النار فى اكثر من جهة بالميدان أيقن حرسه أنها مؤامرة لإغتيال الرئيس " مهووس " ، أخذت الأرجل المذعورة تروح وتجيء على غير هدى ، مازال الغبار يحجب الرؤية ، السيد " زعزوع " تجمد فى مكانه من الخوف عندما رأى بعينيه سقوط الرئيس " مهووس " على الأرض ، غارقا فى دمائه ، تملأها الدهشة والإستنكار ، غير مصدق لما حدث . القناص " إسلام الكاشف " مايزال يصب غضبه ولعناته ورصاصاته فى قلب الرئيس " مهووس " ورأسه حتى لايكون هناك فرصة واحدة لنجاته من الموت ، تمت محاصرته من الحرس والحراس ومطاردته حتى تمكنوا من القبض عليه هو ورفاقه ، لم يبال أو يهتم ، أحس بالراحة والسكينة تنساب بين ضلوعه بعد أن حقق هدفه . كان السيد " زعزوع " قد أفاق الى نفسه واستطاع  الإختفاء داخل السيارة المدرعة . بعد ان أحس بالأمان أتجه نحو الرئيس " مهووس " فوجده قد فارق الحياة نتيجة سكتة قلبية وليس بسبب ماأصابه من رصاصات قاتلة . تم إيداع القناص " إسلام الكاشف " هو ورفاقه لحين التحقيق معهم ومعرفة الأسباب الحقيقة وراء إغتيال الرئيس ومن هم ورائهم ، لم يكن هذا الأمر مفاجئا للشعب المنغولى ، لقد تم إغتيال الكثير من الرؤساء والمسؤلين المنغوليين على مدى العصور وإن إختلفت الأسباب والطرق . كانت محطات التلفاز الأجنبية قد إلتقطت صورة الرئيس " مهووس " اثناء اغتياله ، اضطر التلفاز المنغولى أخيرا الى إعلان وفاة الرئيس " مهووس " بعد أن حل محله السيد " زعزوع " . أعلنت حالة الطوارىء فى دولة منغوليا الوسطى لحين إشعار آخر . كانت العاصفة قد توقفت تماما . تم عمل إقامة تمثال جديد للرئيس " مهووس " لينضم الى تماثيل الزعماء الآخرين بميدان الحرية .








القلب المسروق (2)

فى أول خطاب للرئيس زعزوع أعلن لا تغيير فى سياسة البلاد ، أثارت تلك الكلمات سُخطْ وغضب الشعب المنغولى وعلى رأسهم القوى المعارضة ، لم يكن لديهم اقتناع كاف بتوليته رئيسا لدولة منغوليا الوسطى ، يعتقدون أنه غير مناسب ولن يقدم أى جديد . كانت كلماته تخرج من فمه مهزوزة ، غير قادر للسيطرة عليها ، إنه يشعر بأنه يرتدى حلة أنيقة واسعة عليه وغير مناسبة له تماما مما أثار ضحك وسخرية الكثير منه ، انتشرت قوات الأمن والاستخبارات فى أرجاء البلاد بناءً على توصياته لمعرفة  اتجاهات وآراء الشعب المنغولى فى الخفاء :
- حظه كان النائب الأول للرئيس مهووس.
- عرفنا أن المرحوم كان حرامى وشبع ....، لسه هننتظر لما زعزوع يسرق ويشبع كمان .
- دول ما بيشبعوش ....، والمصيبة أن فلوسهم بيهربوها فى الخارج .
- على رأى المثل كلهم......... ، ادخل الزريبة واختار ............
- البشاير باينه من أولها ، بيقلك نفس الكلام .
- سمعت آخر نكته .....، الرئيس زعزوع ....،
القلق والاضطراب ينضح من وجوه الناس ، رياح التغيير لم تهب بعد كما يظنون ، لقد خيب الرئيس "مهووس" آمالهم ومن قبله الرئيس عباس كما يعتقد المعارضون بكل طوائفهم ، تناقلت الهمسات بينهم بأن الرئيس "زعزوع" له صلة بحادث اغتيال المرحوم "مهووس" بالاتفاق مع الاستخبارات الشرشوحية لتوليته رئاسة البلاد مكانه ، لقد قدم المرحوم كل ما عنده من تنازلات ، لم يكن أمامهم إلا الخلاص منه ليحل محله نائبه لتكتمل مسيرة التنازلات والعطاءات لصالح دولة كوهين الشيطانية بالطبع .لقد بدأت بمعاهدة الوفاق بما فيها من تطبيع وبنود سرية ضمنت حياد أكبر دولة منغولية كانت تقف فى وجههم دائما لتحول دون تنفيذ مخططاتهم ، يخشون أن تفيق وتعود كسابق عهدها ،  الرئيس "زعزوع" فى مأزق ، يحاول تبرير موقفه من اغتيال الرئيس "مهووس" وكسب المعارضة بجانبه فى هذا الوقت بالذات ، أيضا لا يخسر ولاءه لشرشوحة العظمى وكوهين الشيطانية ، إنها معادلة صعبة كما يعتقد المعارضون وعلى رأسهم حزب الاصلاح الذى يتزعمه السيد نور . كانت تربطه به علاقة وطيدة من قبل . لقد ظل مقيما فى شقة بعمارته المطلةعلى النيل الكبير حينما كان ضابطا صغيرا بالجيش ، ما زالت تلك الأيام محفورة فى رأسه ، لقد انصهرت الأسرتان معا ، زيارات دائمة ، مجاملات،زوجة السيد زعزوع تلازم زوجة السيد نور لأوقات طويلة وخاصة أنه كان يقضى وقتا طويلا بعيد عن بيته بحكم عمله كضابط بالجيش المنغولى ، الأولاد فى أعمار متقاربة من بعضهما ، الابن سعيد محببٌ بين الجميع سواء من والده الرئيس أو السيد نور نفسه ، يختلف كثيرا عن أخيه عزيز واخته يسرى ، قلبه يخفق دائما بحب "شيماء نور" ، حتى بعد أن تركوا شقتهم  فى الخفاء يتابع أخبارها بالجامعة . ، يتمنى أن يقترن بها ولكن ليس قبل إزالة الصدع ومداواة الجرح القديم . لقد تم اعتقال والدها من قبل على أيدى والده فى عهد الرئيس الراحل "مهووس" . الخلافات السياسية تحول دون تحقيق أمنياته ، أحس أن الفرصة أقبلت نحوه عندما استدعاه والده ليشير عليه قائلا :
- أفكر فى كسب أحزاب المعارضة وخاصة حزب الاصلاح و...،
قاطعه :
- تقصد السيد/ نور
- نعم ، سوف أستدعيه للتفاهم معى و...،
قاطعه:
- بل يفضل أن تزوره فى بيته وتجدد العلاقات معه من جديد .
- ولكننى رئيس دولة منغوليا الوسطى الآن .
-        وأيضا كنت سببا فى اعتقاله من قبل .
-        كنت أنفذ أوامر الرئيس مهووس كما تعلم .
-        إذا زيارتك له فى بيته ضرورية لتفسير ما حدث من سوء فهم .
-        قد يظن ذلك ضعفا منى وأن يفهم أننى أتقرب منه لكسبه بجانبى فى بداية حكمى و......,
 قاطعه :
- سيكون ذلك فى سرية تامة  دون علم أحد .
 ضاع سعيد فى أفكاره , اعتقد أن الفرصة المناسبة مهيأة  الآن  ,المهم      المدخل الذى يضمن فتح قلب وعقل والده على مصراعيهما . فاجأه :
-        فيما تفكر ياسعيد ؟
-        أفكر فى كيفية استثمار هذه الزيارة لصالحنا .
-        كيف ؟
-        لو طلبت منه أن يزوجنى بنته شيماء و ....,
 قاطعه :
-        أعلم أنك تميل إليها ولكن هل تود الزواج منها حقيقة ؟
-        أى إنسان يتمنى الارتباط بها .
   بلهفة وبدون تفكير :
-        فعلا هى رائعة .
 أحس الرئيس زعزوع بالثقة والاعتزاز , إعتقد أنه ماض بخطوات ثابتة متزنة نحو تثبيت قبضته على دولة منغوليا الوسطى ,أيضا قام ببعض التغيرات التى تسير فى نفس الإتجاه , منها تغير وزير الداخلية . كانت هناك شائعات تؤكد أنه كان لديه علم كامل بمؤامرة إغتيال الرئيس "مهووس" , أيضا قام بتغير كل رؤساء المصالح المؤثرين فى الدولة وزرع العيون والجواسيس حولهم , لايهمه أن يكونوا أكفاء بقدر أن يكونوا موالين له ولنظامه بكل دقة واخلاص . عندما تقابل مع السيد/ نور أحتضنه بحرارة أمام أهل بيته , أستطاع أن يمثل دور المحب المخلص ببراعة واتقان ، لقد تعجب ابنه سعيد ، لم يصدق عينيه ، تمنى أن تكون تلك اللحظة قد أزالت كل الهواجس وأذابت أنهار الثلوج  المتجمدة التى تفصل بين قلبيهما ، تلتها ترحيبات وتحيات وكلمات تشيد بالماضى وذكريات حلوة إلى أن قال :
- طبعا أنت مندهش يا سيد/ نور لهذه الزيارة .
- كلا ، لقد جمع الحب والود بيننا وابنك سعيد الذى شرفنا له أهمية خاصة و....،
قاطعه :
- زيارتى لك تتعلق أساسا بسعيد.
- خير يا سيد زعزوع ؟
على مهل وبثقة واطمئنان قال :
- إبنى سعيد يتشر ف بطلب الزواج من ابنتك العزيزة شيماء.
تغير وجه السيد/  نور ، لم يفكر فى هذا الأمر من قبل ، كان طلبا مفاجئا ، أخذ يقلب الأمور فى رأسه بسرعة ، أحس أن وراء هذه الزيجة أهدافا أخرى غير معلنة وإن كان  إبنه سعيد يختلف عنه كثيرا، أخيرا اهتدى إلى رأى يعتقد أنه مناسب .
- طبعا يشرفنا يا سيد زعزوع ولكن يجب أن نأخذ رأى شيماء وهذه الشكليات .
- شيء طبيعى ولكن المهم أن يكون الرد فى أقرب وقت ممكن .
- طبعا، طبعا .
- هناك أمر آخر يجب أن أوضحه لك يا سيد/ نور.
- أى أمر؟
- بخصوص اعتقالك الأخير ،  لم يكن لى أى دورلأننى كنت أنفذ سياسة المرحوم "مهووس" كما تعلم ، وهذا هو السبب الآخر الذى أتيت من أجله لزيارتك .
ضاع السيد نور فى أفكاره ، إنه ما زال يتذكر تلك اللحظات المحفورة فى مخيلته عندما داهموه فى الهزع الأخير من الليل ، اقتحموا حجرة نومه ، كانت زوجته بنصف ملابسها ، كمموا فاه ، كبلوه بالأغلال أمام أولاده . كانت الجنود تحاصر البيت من كل اتجاه ، لم يعرف تهمته الشنعاء ، قادوه فى الظلام ، عجزوا عن معرفة مكانه، انقطعت كل صلتهم به تقريبا ، لم يعد إلى بيته إلا بعد عام كامل . فاجأه قائلا عندما أفاق لنفسه :
- ما كان عليك إذن يا سيد زعزوع أن تعلن أنه لا تغيير فى سياسة البلاد .
- أنت راجل سياسى وتعرف ألاعيبها، إنها مجرد كلمات لإرضاء الموالين للمرحوم وخاصة أن هناك إشاعات تؤكد أننى وراء اغتياله و...،
قاطعه :
- الاشاعات كثيره  ولو مشينا خلفها و...،
قاطعه :
- لذلك يجب القضاء عليها فى مهدها ويعلم الشعب المنغولى الحقيقة .
- تقصد الحقيقة من وراء اغتيال الرئيس مهووس؟
- بالضبط . لقد كانوا يخططون لقلب نظام الحكم بعد الاستيلاء على السلطة كما اتضح و ....
قاطعه :
- معنى ذلك أنك تنوى تغيير سياسة البلد يا سيد زعزوع .
بكلمات متلاحقة وكأنه يحفظها عن ظهر قلب .
- طبعا ..طبعا ولقد اجتمعت مع زؤساء المعارضة وعرفت مطالبهم ولديهم الحق فى الكثير منها .
انفرجت شفتى سعيد عن ابتسامة عريضة عقب الكلمات الأخيرة من والده ، عقب عليها قائلا .
- إذن لن يكون هناك اختلافات سياسية كبيرة بينك وبين أحزاب المعارضة يا والدى .
- طبعا ..طبعا وخاصة مع حزب الاصلاح .
أحس سعيد أن كل شيء تم كما أراد له.كان ذلك فى حضرة أخيها نضال ، لم يتفوه بكلمة واحدة إلا بعد أن غادر الرئيس زعزوع وابنه بيتهم . قال لوالده .
- أنا أرفض هذه الزيجة يا والدى .
الأسرة كلها وافقته الرأى بما فيهم أخته شيماء التى كانت تحس بالميل إليه ، ربما قلبها متعلق به . المشكلة كانت تكمن فى إبلاغ سعيد ووالده الرئيس خبر رفضهم لهذه الزيجة ، بعد مشاورات اتفقوا معا على هذه العبارة .
- حتى تنتهى من دراستها سوف نقرر الأمر .
لم يضجر أو يتضايق الرئيس زعزوع عندما أخبروه ، أحس أنه ضرب عصفورين بحجر واحد ، كسب السيد نور بجانبه فى هذه الظروف الصعبة وارضاء ابنه سعيد ، عندما تناقش مع زوجته نيران هانم بهذا الصدد أثارت فى نفسه الحمية قائلة :
- كيف يرفض طلبك ؟!
كان ذلك فى وجود ابنها "سعيد" .
- ليس رفضا يا أمى .. لو كنت مكانه لما فعلت غير ذلك
منذ تلك اللحظة وهو يفكر بجدية لمقابلتها والتفاهم معها عن قرب ، إنه يعتقد أنها تميل إليه حتى وهما طفلان صغيران ، بعد أن ناقش الأمر من كل جوانبه بينه وبين نفسه قرر أمر جلل ، أخذ يعد له فى الخفاء مستعينا  بنفوذه ، إنه ابن رئيس دولة منغوليا .










القلب المسروق ( 3 )

اعتقد "سعيد زعزوع" أن شيماء أصبحت شريكة حياته رسميا منذ لحظة طلب زواجها بغض النظر عن المراسم الأخرى. مجرد وقت وليس أكثر ، عندما تنتهى من دراستها الجامعية .ستكون عروسه ،  لقد تبددت حواجز الخوف وعدم الثقة بين والده ووالد "شيماء" الذى يكن له حب فياض جامح كما يعتقد "سعيد ". ما زال يذكر حادثة سقوطه من فوق شجرة التوت التى ما زالت كائنة بحديقة بيت السيد نور .كان طفلا صغيرا ، فى التو حمله فى سيارته  إلى مستشفى الحكمة الخاصة القريبة من البيت بمدينة المحروسة متحملا وحده كل الأعباء والمشقة . كان قد كُسرت ساقه اليمنى ، لم يعلم والده المشغول بعمله دائما شيئا إلا بعد عودته ببضعة أيام ، إنه يخشى مقابلة شيماء خوفا من أن يغضب والدها إذا علم بالأمرأو يتبدل هذا الحب الذى يكنه له إلى بغض وكراهية  ،قد يظن أن هذا الأمر يلوث سمعتها أو شرفها إذا علم بمقابلتها له دون علمه ، حبه الجنونى لها أعمى عيناه عن كل شيء ، اندفع بسيارته الخاصة نحوها دون أن يدرى. كان الحرس فى انتظاره ، أنه دبر لهذا اللقاء فى سرية تامة دون علم شيماء نفسها أو أحد من أهلها. كانت قد انتهت من محاضرتها . فاجأها رئيس الحرس .
- لو سمحتى تعالى معايه .
وقعت تلك الكلمات عليها كالصاعقة ، أحست أن لها طعما ورائحة غريبة . اللهجة الآمرة المتسلطة تعرفها جيدا ، بتلعثم والحيرة تتقاذفها .
- لم أفعل شيئا و....
قاطعها :
- لا تخافى .. هناك من يريد مقابلتك .
- من ؟!
- ستعرفين الآن .
وقع قلبها في رجليها،  ظنت أنهم سعتقلوها ، إنهم يستخدمون أساليب خبيثة مباغتة ، انساقت خلفه مسلوبة الإرادة ، أفكارها المباغتة تجرى فى كل اتجاه ، توقفت عندما اصطدمت عيناها بشبح طويل القامة ،  يخفى عيناه وراء نظارة سوداء ، يخيل إليها أنها تعرفه أو رأته من قبل .
- ربما يكون ضابط مخابرات من الذين قاموا باعتقال والدها من قبل ، زادت دهشتها واضطرابها عندما أمرها بالركوب داخل سيارته .
- إركبى يا آنسه شبيماء ، أود التحدث معك فى أمر مهم .
- لكننى ...
 قاطعها :
- لا تخافى أنا سعيد.
على الفور فُتح الباب الخلفى للسيارة فاندست داخلها دون أن تدرى ، انطلقت السيارة فى صمت مخترقة الشوارع  وكأنها تتجه نحو هدف محدد ، بارتباك قالت شيماء مستفسرة :
- أنتم ها تخطفونى ؟!
انفرجت شفتى سعيد عن ابتسامة عريضة ، على مهل ويتلفت خلفه تجاهها 
- زى ما خطفتى قلبى هخطفك.
استعادت جأشها قليلا ، تبددت مخاوفها بأمر اعتقالها وإن كان الخوف
 ما زال يسيطر عليها ، إنها لا تدرى أى مجهول ينتظرها . كان سعيد يرتدى حلة أنيقة ، ذات مواصفات خاصة . توقفت السيارة أمام مبنى غريب يشبه الكافتريا ، لم تتعود هذه الأماكن ، الأبواب تحاط بحرس ملفت للانتباه، عندما مرق سعيد أمامها انحنت له الرؤوس محيية ، ذات وجوه حادة ، لم تحس بالراحة نحوها ، تمر على شفاههم ابتسامات صفراء مغتصبة ، عشرات الأسئلة تدور فى رأسها ولكن لسانها عاجز عن التلفظ بكلمة واحدة  ، إنه مكبل داخل فمها ، لا يقوى على الحركة ، استيقظت من أفكارها على صوت النادل وهو يقدم لها كوبا من العصير .
- العصير يا أفندم .
مدت يدها بتكاسل . كان سعيد يجلس فى المقعد المقابل لها، تفصلهما عن بعض منضدة صغيرة دائرية ، لم يكن هناك غيرهما بالصالة باستثناء وجوه تروح وتجيء ذات نظرات ثاقبة ، بعضهم يشهر سلاحه فى تحد ، آخرون يخفوها داخل ملابسهم ، لم تستطع تحديد هوية هذا المكان بالضبط . كانت تقبض على كشاكيل محاضراتها بتشبس واصرار ، سقط احدها على الأرض ، دارت صفحاته حتى توقفت على محاضرة التاريخ الأخيرة . كانت شيماء تدون النقاط الأساسية مع بعض تعليقاتها الخاصة ، وقعت عينى سعيد على عبارة .
- تاريخ مزور .
لفتت انتباهه ، انحنى ملتقطا الكشكول من على الأرض ليعيده إليها ، سألها
- ماذا تقصدين بتاريخ مزور ؟
بارتباك وكلمات متباعدة .
- أقصد أن الأستاذ مُستأنس أفكاره متضاربة
فاجأها سعيد قائلا :
- الأستاذ مستأنس الشرخة أعرف أنه صاحب مباديء على ما أظن
- كنت أعتقد ذلك ولكنه على سبيل المثال كان يمجد ويفتخر بالرئيس مهووس وبعد رحيله تناقضت كلماته السابقة فى محاضرته اليوم .
- ربما كان مخدوعا فيه وعرف حقيقته .
- يبدوا أن الحقيقة غائبة لدينا دائما .
بعد صمت وتفكير قال
- ممكن نغيره بأستاذ آخر إذا ...
قاطعته :
- الأمر لا يستدعى ذلك ، إنه مجرد اختلاف وجهات النظر ، قد يكون على صواب .
-عموما لا تضايقى نفسك بهذه الأشياء التافهة فلنفكر فى أحوالنا .
- كلها هموما واحدة .
- دائما ترددين أفكار والدك وأخيك نضال و...
قاطعته :
- ممكن أفهم سبب اعتقالى ؟
بكلمات متباعدة تتخللها ابتسامة عريضة ونظرات حالمة .
- أنا السجين وليس أنت ، لم يعد قلبى ملكا لى ، أود أن أوضح لك الأمور المتشايكة .
ضاعت شيماء فى أفكارها ، توقفت عند طفولتها . كان سعيد يلازمها دائما وهى تجمع ثمار الفاكهة من حديقتها ، يلعب معها ، يدفع أرجوحتها برفق وحنان وهى تحلق عاليا ، تتعالى ضحكاتها . كانت أرجوحتها تربض تحت شجرة التوت ذات الثمار السوداء المحببة إليها ، عزيز أخوه يطردها منها ويحتلها ،. كانت لعبته المفضلة عسكر وحرمية . معظم الأطفال يلعبون معه بالاكراه  . كانت الحديقة ملتقى لكثير من أطفال الحى ، دائما يختار الضابط والجميع حرامية . نهره أخيه سعيد ذات مرة قائلا .
- ليه أنت كل مرة الضابط ؟
- علشان لما أكبر هكون ضابط .
 كان عزيز يكبر الأطفال جميعا بما فيهم أخوها نضال ، عندما رفضت  اللعب معهم ركبت  أرجوحتها ،فجأة دفعها بقوة ، فقدت توازنها ، سقطت على الأرض ، كُسرت سنتها الأمامية ، صرخ سعيد وهو يردد بهستريا .
- دم ... دم
هجم عليه أخوها نضال ، كاد يسقطه أرضا لولا تدخل عم عبده الجناينى . كان حمامة السلام والأب الحنون لهم جميعا ، لم يكن يعلم بما حدث ، عندما وقع نظره على شيماء استشاط غضبا ، صرخ فى وجه عزيز .
- أنت لا تأخد منهم حاجتهم لا تضربهم .. ما معنتش تلعب معاهم .
أخذ سعيد يمسح دم شيماء بملابسه الجديدة ، منذ تلك اللحظة لم يعد عزيز يشاركهم ألعابهم فى وجود عم عبده الجناينى ولكنه كان ينقض عليهم كالنسر الجائع فى غيابه ، يخطف ما فى أيديهم من فاكهة جمعوها من أشجار الكمثرى والبرتقال واليوسفى ثم يطير صاعدا إلى شقته أو يقطف بعض ثمار العنب التى لم تنضج بعد ويبعثرها فى كل مكان . عندما شكته شيماء إلى عمها عزيز أثناء عودته من الجيش .
- عزيز بيضربنا و...
قاطعها :
- إلعبوا مع بعض .
وعندما شكت إلى نيران هانم أمه .
- عزيز وقعنى من المرجيحة .
- ما يقصدش
قال لها سعيد الواقف بجوارها .
- يقصد يا ماما ... محدش بيحبه .....
أخرجها من أفكارها مظاهرات تردد .
- يابلدنا رايحة لفين ...
المظاهرات تزداد اقترابا منهما . كانت آتيية من الشارع الرئيسى ، تغير وجه سعيد ، أخذ يتطلع بقلق واضطراب تجاه الأصوات الهادرة المزلزلة ،. بكلمات مقتضبة .
- المعارضة هيعملوا فتنة فى البلد .
-  لم تبد أى تعليق على كلماته الأخيرة ، كانت مشغولة بكيفية التخلص من كوب العصير وكأنه قنبلة موقوتة سوف تنفجر فى أى لحظة . نهض سعيد متطلعا تجاه الشارع الرئيسى. كان المبنى مغلف بزجاج شفاف سميك ، يسمح  لمن ما بداخله رؤية ما فى الخارج ، الأصوات الهادرة تخترق أذنيه وهي تردد.
- رئيسنا لعبة وشخشيخة
قذف المتظاهرون سور المبنى الزجاجى بالحجارة ، فشلو فى اصابته . كانت لديه القدرة على مقاومة الحجارة ، هجمت عليهم عناصر قوات الأمن وكأنهم كانوا على موعد فى معركة ضارية غير متكافئة ، أصابو منهم الكثير بإصابات مختلفة ، اعتقلوا عناصر ظنوا أن لهم نشاط واسع بعد استخدامهم قنابل مهيجة للأعصاب وهراوات كهربائية تم استيرادها خصيصا من دولة شرشوحة العظمى . ماتت أصوات المتظاهرين ، لم يتبق منها غير دماء تجلطت بالشوارع ، أنين صرخات مكتومة لأجسام مهدودة على أن يتم إسعافها، رائحة البارود والدخان تقتحم البيوت ، مدرعات ومجنزرات تطوق مداخل الطرق والشوارع الرئيسية حتى امتداد النهر الكبير ، كانت مياهه آسنة يعترى وجهها عوامات ذات نفوذ كبيرة ، شاطئيه أخذا فى الانهيار . قالت شيماء فجأة بعد أن تطلعت فى ساعة معصمها .
- لقد تأخرت كثيرا ، يجب أن أذهب حالا .
نهضت واقفة ، بعد صمت وتفكير قال لها سعيد وهو يتطلع إليها بعينين فاحصتين .
- حسنا ...، سأوصلك لبيتك .
- لا داعى .
- المظاهرات تمنعك من الوصول وربما يقبضون عليك .
على مضض .
- لا بأس ولكن إلى أقرب مكان لبيتى .
بذعر واضطراب شاملين اندست داخل السيارة . كانت تخفى وجهها خشية أن يراها أحد ، الشوارع مزروعة بلافتات مكتوبا عليها.
- نعم للرئيس زعزوع ... الرخاء قادم ...
كانت الكمائن والشارات الحمراء تُفتح أمام السيارة فى التو ، تنهب الطريق ، عندما أحست شيماء باقتراب بيتها وأنها أصبحت فى مأمن قالت له .
- لو سمحت سأنزل هنا .
كانت أمها تروح وتجيء بشرفة الشقة كاللبئوة المحبوسة نظراتها تمتد بعيدا ، لم تتعود تأخرها ، تخشى أن يكون قد وقع لها حادث ، أو....، بمجرد أن وقع نظرها عليها صرخت فيها قائلة :
- أنت تأخرت ليه؟!
بعد صمت وتفكير محاشية تقابل وجهها بوجه أمها .
- المواصلات مقطوعة بسبب المظاهرات و....
قاطعتها :
- الشيطان قاعد يوسوس لى من ساعتها.
ضاعت شيماء فى أفكارها ، كانت فى حيرة من أمرها ، إنها لا تخفى عن أمها شيئا ، قد تكتشف يوما أنها قابلت سعيد وأخفت عليها ، أيضا قد تكون مصلحتى فى عدم لقائه ومقابلته ، أخرجتها من أفكارها رياح غاضبة ، تصفع الشرفة على وجها . كانت الأوراق والأشياء النائمة فوق مكتب شيماء فى مواجهتها ، تطايرت وسقطت على الأرض ، أخذت تتابع ركلاتها لجريدة منغولية ، تفككت صفحاتها فى كل اتجاه . كانت الرياح تهب على منغوليا الوسطى طوال العام دون سابق انذار ، لا تميز بين فصول الشتاء أو الصيف ، دائما محملة بالأتربة والغبار والرمال ورائحة نفاذة ، وقعت عينى شيماء على الصفحة الأولى من الجريدة ، مطت شفتيها بامتعاض ، ضاعت فى أفكارها ، بعد أن أغلقت أمها الشرفة أخرجتها من أفكارها متسائلة .
- فيما تفكرين يا شيماء ؟
وهى تهز رأسها باستنكار
- أفكر فى أحوال البلد بعد أن أصبح عم زعزوع رئيسا للدولة .
قالت الأم وهى تأخذ نفسا عميقا .
ستصبح أسوأ ما هى عليه الآن .
- ولكنن أعتقد أن عمى زعزوع طيب .
- المشكله انه يفكر بأذنيه وزوجته نيران هانم لها تأثير طاغي عليه وسوف ينعكس على تصرفاته .
- كيف ؟
- أقصد أن نيران هانم ذات تأثير طاغى عليه وسوف ينعكس ذلك على سياسة البلد
- لا أظن
- إن حكمك عليه عندما كنت طفلة صغيرة ، لكن يجب أن تعلمى أنه لا يفعل شيئا دون الرجوع إليها منذ بداية زواجه .
- لم أفهم مقصدك يا أمى .
بكلمات متقطعة وابتسامة تمر على شفتيها .
- لقد ذكرتينى يوم أن جاء لاستئجار شقتنا بعد الاتفاق على كل شيء مع والدك .
- هل نقض كلامه أم تشاجر مع نيران هانم ؟
 لقد صرخ مستغيثا لتدخل والدك لاقناعها وهو يردد.
- خامس شقه ترفضيها. لم نجد أفضل من ذلك ثم أننى اتفقت مع السيد نور
 ببرود ودون مبالاة :
- قلت لك ألف مرة فكر وحاول أن تفهم قبل أن تتكلم ... قلت أننى موافقة على الشقة بشرط أن تغير بدلة الفرح و...
قاطعها :
- إنها بدلة ثمينة وغالية الثمن.
قاطعته:
- دائما تخلط الأمور ببعضها ، أنا أتكلم عن لونها الذى يشبه بدل الجنود ولا يتناسب مع فستان زفافنا .
- أغير البدلة ، فى حاجه تانيه ؟
- والحذاء غير مناسب أيضا
- ماذا فى الحذاء؟
- يجب أن يكون كعب عال حتى يعوض الفرق فى الطول بينى وبينك ليكون منظرك مناسبا وملائما أمام أقاربى وكل المدعوين
- أمرى إلى الله ... المشكلة أننى لا أستطيع أن أرفض لكى طلب
قالت شيماء لأمها التى كانت مصغية لها بكل حواسها وكيانها وعقلها حتى قالت
- تقصدين أنه يحس أنه من طبقة دون طبقتها؟
- نعم . اضافة إلى ذلك أن لهجته تميل إلى لهجة الفلاحين بينما لهجتها أخذت لهجة المدينة ... فيحاول تقليدها فتضيع منه الحروف وتتشابك ويبدو مهزوزا .. ثم أنها جميلة للغاية وذكية
- ربما يتغير ويثور عليها بعد أن أصبح رئيسا للدولة
- إنه ضابط ويجيد تنفيذ الأوامر وتعود على أن لا يكسر أوامرها
- ربما هو الذى يفرض أوامره عليها بعد ذلك .
- لا أظن .
- وكيف يكون رئيسا لدولة منغوليا الوسطى إذن ؟!
- ربنا يُستر.

ثمن الحرية - مسرحية للأطفال


 ثمن الحرية
مسرحية للأطفال
الشخصيات :
بلبل - من طيور حديقة أرض المرح
عندليب - من طيور حديقة أرض المرح
هدهد - من طيور حديقة أرض المرح
غراب - من طيور حديقة أرض المرح
مجموعة عصافير من طيور حديقة أرض المرح
السلطان شمهورش القرفان
شيخ الصيادين
رئيس الحرس
الحارس الأمين
الطبيب حكيم الزفتاوي

الأمير 1

الأمير 2
الأمير 3


الفصل الأول
اللوحة الأولى
المنظر : يظهر جزء مقتطع من حديقة أرض المرح والتي تتميز بأشجارها وأزهارها ، تدخل مجموعة من الطيور وهي تشدو بألحانها العذبة ، يروحون ويجيئون في أرجاء الحديقة بينما البلبل منزو في ركن بعيد من الحديقة مكتئباً ، حزيناً
يغنون
نحن دوما أصدقاء بيننا عهد الوفاء
ومعا دوما نغنى إننا نهوى الغناء
نحن دوما أصدقاء نحن دوما أصدقاء
 تخرج الطيور بينما يظل الهدهد والعندليب وهما يتطلعان للبلبل بدهشة واستنكار .
العندليب ( للهدهد ) – لماذا لا يشاركنا البلبل في غنائنا ؟ هل هو مريض ؟!
الهدهد – لا أدري ، هيا نطمئن عليه .
( يتجه كلاً من العندليب والهدهد تجاه البلبل ، يتطلعان إليه باستنكار )
العندليب ( للبلبل ) – كل طيور الحديقة سعيدة ومرحة ما عدا أنت فلماذا؟
البلبل ( بتجهم ) – لا شئ .
الهدهد – تكلم . لا تخفي شيئاً ، يمكننا مساعدتك .
البلبل – وقد مللت وجودي بحديقة أرض المرح ، .....
الهدهد ( يقاطعه ) – مللت وجودك بحديقة أرض المرح ؟! . نحن جميعاً نعتز ونفخر بوجودنا فيها ، انظر إلى أشجارها اليانعة وأزهارها وطيورها المغردة .
البلبل ( باكتئاب ) – إن آمالي وطموحاتي أكثر من ذلك بكثير .
        ( يتعالي نواح الغراب من الداخل ) .
الهدهد ( يسمع باهتمام ) – أظنه الغراب المشاكس ( يواصل كلامه ) – سوف أتبين الأمر    .   وأعود حالاً ( يخرج ) .
العندليب ( للبلبل ) وما هي آمالك وطموحاتك يا عزيزي البلبل ؟
البلبل ( وعيناه تتطلع إلى بعيد ) – أحلم بالغناء بصوتي العذب في قصر السلطان شمهورش .
العندليب ( بدهشة ) تعني في قصر السلطان ؟!
البلبل – نعم إنها أمنيتي التي أعيش من أجلها .
العندليب ( بعد أن يصمت مفكراً ) – ولكنها أمنية غريبة وعاقبتها قد تكون سيئة .
البلبل ( يقاطعه ) – عاقبتها قد تكون سيئة ؟!
العندليب – نعم . نعم . لأنك ستبحر في بحر مجهول قد تغرق فيه وأنت لا تجيد السباحة .
البلبل – لقد فكرت في كل العقبات ولديّ القدرة في التغلب عليها .
العندليب – خذ رأى أصدقائك وأشقائك قبل أن تتخذ قرارك النهائي فأنت عضو بارز في حديقة   أرض المرح .
( يدخل الهدهد )
الهدهد ( في تواصل ) – الغراب يبحث عن المشاكل في حديقتنا ويعكر صفو سعادتنا
العندليب – ماذا يريد هذا الغراب المشاكس ؟
الهدهد ( بعد أن يصدر ضحكة عالية ) – يريد أن يغني في حديقتنا بدلاً من البلبل ؟!
( يضحك الجميع )
البلبل ( بعد أن ينتهي من ضحكاته ) يغني بدلاً مني ؟!
العندليب – الغراب يقارن صوته القبيح بصوت البلبل العذب ؟!
الهدهد ( تظهر عليه أمارات الجد مرة واحدة ) – آه . لقد تذكرت ما سبب حزنك وانعزالك عن طيور حديقة أرض المرح .
العندليب – إنه يبحث عن المشاكل هو الآخر ولكن بطريقة مختلفة عن الغراب .
الهدهد – هل سيعتزل الغناء في أرض المرح ؟
العندليب – بل أكثر من ذلك ( يواصل كلامه ) – إنه يود الرحيل عن أرضنا .
الهدهد – يرحل عن أرضنا ؟!
البلبل – نعم . أريد أن أغني في حديقة قصر السلطان ليسمعني هو وحاشيته وأصدقاؤه وكل    الأمراء وأصبح مشهوراً وأحقق المجد والعظمة .
الهدهد – لقد حققت المجد والعظمة والشهرة بين أصدقائك وأحبائك في أرض المرح
العندليب – هذا العالم الذي تود الرحيل إليه يختلف كثيراً عن عالمنا ولا يناسبك .
البلبل – ولا تنسوا أنني أختلف عن كل طيور حديقة أرض المرح وطموحاتي وآمالي ليس لها  حدود .
الهدهد – يجب أن تكون طموحاتك تتناسب مع قدراتك وإمكانياتك وظروفك .
البلبل - أنتم كسالى وتحقدون عليّ . لقد اتخذت قراري وسأرحل .     
العندليب – ترحل عن وطنك من أجل أحلام خادعة كاذبة .
البلبل – بل من أجل الشهرة والمجد الحقيقي .
العندليب – أنت عنيد ولا فائدة من الكلام معك . ( يخرج ) .
( فترة صمت )
البلبل ( يوجه كلامه للبلبل ) – عندما أكون مشهوراً سوف تفتخرون بي وتعرفون أنني على حق فيما فعلته .
( يدخل الغراب )
الغراب ( صارخاً ) – لن أتنازل عن حقي سوف أغني بدلاً من البلبل ، إنكم لا تقدٍّرون مواهبي الدفينة .
الهدهد ( للغراب ) – سوف يرحل البلبل لحديقة قصر السلطان ليغني هناك ويمكنك أن تغني    بدلاً منه في حديقة أرض المرح .
الغراب ( باندفاع ) – حسناً . بكل فخر سأحل محله ( بعد فترة صمت وتفكير ) – ولكن لماذا .  لا أرحل معه وأغني أنا وهو في حديقة قصر السلطان ؟ إن صوتي عذب كما تعلمون
البلبل – السلطان يريد بلبلاً ولا يريد غراباً .
الغراب – قلت لكم جميعاً أنني غراب موهوب .
الهدهد – يمكنك أن تتدرب هنا وبعد ذلك ترحل لتغني في حديقة قصر السلطان .
البلبل ( صارخاً ) – سيصاب السلطان بالفزع والرعب إنه يكره الغربان .
الغراب ( للبلبل ) – أنت تخشى أن يعجب السلطان بصوتي ويطردك .
الهدهد – إن صوتك غرابي رائع ولكن لا يروق للسلطان فيذبحك .
الغراب – يذبحني ؟! يذبح أعذب صوت عرفته حديقة أرض المرح ؟!
البلبل – نعم . سيذبحك ويقطعك ، ............
الغراب ( يقاطعه ) – السلطان يحب أكل البلابل ويكره أكل الغربان .
الهدهد – لن يأكلك السلطان ولكن الحيوانات ستتكفل بأكلك .
البلبل ( للغراب ) – قد لا يذبحه السلطان يمكن أن يسمح له بالغناء في حالتين .
الغراب ( بابتهاج ) –. ما هما ؟
البلبل – تغني لمن يريد السلطان تعذيبه أو إذا كان السلطان أصم لا يسمع .
الغراب – تسخر من صوتي يا بلبل ؟! سوف أكون سبباً مباشراً في طردك من حديقة قصر  .   السلطان .
البلبل ( للغراب ) – لا تضيع وقتي الثمين سوف أرحل الآن يجب أن أودع طيور حديقة أرض المرح جميعاً .
الهدهد ( للبلبل ) - أريد أن أذكرك قبل رحيلك يا عزيزي البلبل بأننا معشر الطيور ليس مكاننا في القصور وإنما في الفضاء الواسع الفسيح وفوق الأشجار وفي أحضان الطبيعة .
البلبل – إنني أعرف طريقي ، لقد خُلقت لأكون بلبل السلطان .
الغراب – وأنا خُلقت لأكون غراب السلطان المغرد .

 

الفصل الثانى

اللوحة الأولى

المنظر : جزء مقتطع من حديقة قصر السلطان شمهورش  القرفان ، توجد فتحتان أحدهما لدخول الحديقة والأخرى للخروج وثالثة تؤدي لقصر السلطان من الداخل .

يظهر رئيس الحرس والحارس الأمين وهما يكملان حديثهما .

الحارس الأمين – كل الأطباء السابقين فشلوا في تشخيص مرض مولانا السلطان . لا أظن ا .  .               لطبيب حكيم سينجح في تشخيص مرضه .

رئيس الحرس – الطبيب حكيم الزفتاوى يختلف عنهم جميعاً .

الحارس الأمين – ولكنه منذ أكثر من ساعة وهو بالداخل يكشف على مولانا السلطان و .......

رئيس الحرس ( يقاطعه ) – مولانا مريض بمرض جديد لم يعرف من قبل ويحتاج لمتسع من   .              الوقت لاكتشافه .

( يدخل الطبيب الحكيم )

الطبيب الحكيم ( يحمل حقيبة سوداء صغيرة ، مقطب الجبين).

الحارس الأمين (للطبيب) – طمئنا  يا سيادة الطبيب عن مرض مولانا السلطان ؟

الطبيب ( بكلمات مقتضبة ) – لقد استطعت بعبقريتى اكتشاف مرض مولانا السلطان

رئيس الحرس – ما الاسم الذى ستطلقه عليه يا سيادة الطبيب ؟
الطبيب (يهز رأسه باستعلاء ) – سأطلق عليه مرض وهم الغربان الخادع .
الحارس الأمين – مرض وهم الغربان الخادع ؟!
الطبيب ( موضحا الأمر فى تواصل )- نعم . إن مولانا السلطان حينما يرى أو يسمع نواح .   الغربان يصاب بحزن شديد قاتل .
رئيس الحرس – هذا يفسر كرهه للغربان أو أى طائر يشبهها .
الطبيب-  بالضبط . بالضبط .
الحارس الأمين- وما هى أعراضه المباشرة يا سيادة الطبيب ؟
الطبيب – الأعراض الظاهرة هو تحوله من السعادة إلى الحزن فجأة دون مقدمات وكذلك بعض  حالات الهستيريا .
الحارس الأمين _ فعلا . فعلا .
الطبيب (يخرج من حقيبته أعشاب ،يوجه كلماته للحارس الأمين)
-خذ هذه الأعشاب واسحقها وأضف إليها الماء وأعطيه منها ثلاث مرات يوميا .
الحارس الأمين _حاضر يا سيادة الطبيب .
رئيس الحرس (للحارس الأمين)_بسرعة حالا .الآن
الطبيب بعد أن يصمت مفكرا )-  ( يا رئيس الحرس مولانا السلطان يحتاج لمعاملة خاصة   .  حتى  يشفى من مرضه الخطير
رئيس الحرس – كيف يا سيادة الطبيب ؟ وضح لى الأمر ؟
الطبيب – على الجميع تنفيذ كل أوامره دون أى معارضة مهما كانت
رئيس الحرس – نحن فداءً لمولانا السلطان
الطبيب- سوف أعود حالا لمتابعة حالة مولانا السلطان (يخرج )
رئيس الحرس ( يكلم نفسه بصوت عال ) - متى يتم شفاء مولانا السلطان حتى تعود لنا ليالى   الأُنس والبهجة ؟
                           ( يدخل السلطان شمهورش )
السلطان (بخطوات مضطربة , يمط شفتيه بامتعاض , يلوى رقبته يمنة ويسرة ,يتطلع فى الأفق وكأنة يبحث عن شيء ما )
رئيس الحرس- أظن مولانا السلطان أحسن حالا الآن
السلطان (لا يعير لكلماته بالا وهو مازال يتطلع للأفق , فجأة يصرخ وكأن ثعبانا لدغه ) .
اقتلوهم   اقتلوهم    لن أحس بالراحة إلا بعد قتل هؤلاء الأشرار
رئيس الحرس- ( أى أشرار يا مولانا السلطان  ؟
السلطان- الغربان المشؤمه
رئيس الحرس – سنقتلهم يا مولانا  ..  سنقتلهم 
السلطان – ( يصمت فجأة , يشير بيديه تجاه الفراغ )- إ نهم قادمون (يخفى وجهة بين يديه )    – لقد أتوا   اقتلوهم   إنهم يهاجمونى
رئيس الحرس – لا أدرى شيئا يا مولانا السلطان
السلطان إننى أراهم ( يجرى ويدور مرددا) – اقتلوهم   إنهم يهاجمونى   إنهم يهاجمونى (يخرج مهرولا )
 رئيس الحرس ( يكلم نفسه بصوت عال ) – لا أدرى سبب كرهه الطاغى لهذه الغربان
( يواصل كلامة ) – هناك شيء خفى يخفيه عنا السلطان لا نعرفه

                                      ( يدخل البلبل )
( البلبل يحط على شجرة قريبة من رئيس الحرس  دون أن يشعر به , يغرد نفس الأغنية   .    الأولى
رئيس الحرس ( يتطلع إلية فجأة , يشدهُ غناءه )
البلبل (يتوقف عن الغناء )
رئيس الحرس (يقترب من البلبل , يكلم نفسه بصوت عال )- ما أعذب تغريده ! (يصبح أكثر .  اقترابا منة ) إنه يشعر بالأمان , لم يحاول الهروب أو الابتعاد عنى
(يدخل السلطان )
السلطان ( صائحا وبصوت عال ) – لا أريد الدواء    أنا لست مريضا   إننى حزين لا أكثر
رئيس الحرس ( للسلطان ) – ممكن نجلب لمولانا السلطان كل المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات حتى يزيلوا عنه الحزن ، ............
السلطان – ( يقاطعه ) – كلا .. كلا ... ( يعود إليه هدوءه ، بعد أن يصمت مفكرا) – إن .  .   نفسى تتوق لشىء ما .
 رئيس الحرس ( بلهفة ) _ أى شىء يا مولانا ؟
السلطان - لا أدرى 
 ( يعاود البلبل عناه وتغريده من جديد بنفس الأغنية السابقة ، يجذب انتباه السلطان ، يتطلع  .  نحوه مبهورا ، تنفرج أسارير وجهه ، يبتسم ابتسامة عريضة ، يهز رأسه بانسجام )
البلبل ( يتوقف عن تغريده ).
السلطان ( ونظراته مسلطة نحو البلبل ) – ما أعذب تغريده ! أريد هذا البلبل ( بعد أن يصمت مفكرا )- يجب أن نفكر فى حيلة ذكية تجعله تحت سيطرتنا فى أي لحظه حتى يظل يغرد دون انقطاع .
البلبل ( يكلم نفسه بصوت منخفض )- لقد انبهر السلطان بصوتى العذب ، سوف أحقق أمنيتى
رئيس الحرس – ليس أمامنا إلا اصطياده يا مولانا ونضعه داخل قفص كبير من الذهب .  .  .   الخالص وأوان من الفضة لطعامه وشرابه وكل ما تشتهيه نفسه .
السلطان ( بلهفة ) – حسنا ... حسنا... المهم أن يكون سعيداً يغرد لى بألحانه العذبة.
رئيس الحرس – طبعا يا مولانا . كيف لا يكون سعيدا فى حديقة قصر السلطان شمهورش.
السلطان – اصطادوه بسرعة ولكن حذارى أن يصاب بأى أذى أثناء اصطياده .
رئيس الحرس – اطمئن يا مولانا شيخ الصيادين خبير بصيد الطيور .
البلبل (يكلم نفسه بصوت منخفض ) – كل شىء يسير على ما يرام .
رئيس الحرس – حسنا يا مولانا ( يتجه ناحية الباب ، ينادى بصوت عال )- أيها الحارس الأمين ... أيها الحارس الأمين .
( يدخل الحارس الأمين )
الحارس الأمين – نعم يا رئيس الحرس .
رئيس الحرس ( يشير باتجاه البلبل الواقف على الشجرة القريبة منهم )- جهز قفص من الذهب لهذا البلبل الرقيق واستدعى شيخ الصيادين حالا لاصطياده.
الحارس الأمين – سمعا وطاعة ( يخرج مهرولا ).
البلبل ( يغرد مرة أخرى نفس الأغنية السابقة وكأنه معجب بصوته أمام السلطان ).
السلطان ( يستمع لتغريد البلبل باهتمام بالغ وانشراح )- لقد بدأت أحس بالارتياح .
رئيس الحرس – قد يكون تغريد البلبل سبب فى شفاء مولانا السلطان من حزنه .
السلطان – حقا ... حقا .... ( بعد أن يصمت وهو يتطلع للبلبل ).
 ولكنه يبدو عليه الإرهاق والتعب .
رئيس الحرس – هذا يؤكد أنه جاء من بلاد بعيدة .
السلطان – ولكن ما سبب اختياره لحديقتنا ؟
رئيس الحرس – جذبته أشجارها المثمرة وأزهارها الفياحة .
السلطان – لقد تأخر شيخ الصيادين وأخشى أن يهرب البلبل .
رئيس الحرس – لن يهرب يا مولانا إنه سعيد بوجوده بحديقتنا وما زال منهمكا فى غناءه
شيخ الصيادين ـ ( حاملا شباكه , ينحنى أمام السلطان ) ـ السمع والطاعة
السلطان ( لشيخ الصيادين , يشير له تجاه البلبل الذى ما زال يغنى )
ـ اصطادوه بسرعة قبل أن يهرب
شيخ الصيادين ( يجذبه تغريد البلبل , بعد فترة صمت موجها كلامه للسلطان ) ـ لا أريد . .     اصطياده قبل أن ينتهي من تغريده
رئيس الحرس ـ بسرعة يا شيخ الصيادين   نفذ أوامر السلطان 
شيخ الصيادين ـ السمع والطاعة ( على الفور يطرح شباكه فوق البلبل
البلبل ـ يكلم نفسه بصوت خفيض دون أن يسمعه أحد
رئيس الحرس ـ ربما يكون بصرة ضعيف
شيخ الصيادين ـ لو كان بصرة ضعيف لما قطع تلك المسافة ووصل إلى حديقة مولانا   .  .  السلطان
 السلطان ـ وما حكايته ؟
رئيس الحرس ـ لا ندرى يا مولانا
رئيس الحرس ( يتطلع للقفص , يتفحصه بدقة ) ـ رائع   سيكون البلبل سعيدا  
                ( يُدْخل شيخ الصيادين البلبل داخل القفص )
السلطان ـ حسنا   نادوا في البلاد وادعوا الأجانب وكل الأمراء ليتمتعوا بتغريده وألحانه . .    العذبة  
رئيس الحرس ـ ( بابتهاج صائحا ) ـ لقد شفى مولانا السلطان من مرضه 
 
 الباقى .....