الأحد، 14 نوفمبر 2010



القلب المسروق

رواية


إهداء


”إلى كل من يحمل قلبا مفعما بالحب والتغيير الخلاق المثمر على أرض واقعنا الذليل"



القلب المسروق (1)

موكب الرئيس يخترق شوارع المدينة . حرسه يحيطه من كل جانب ، عشرات السيارات أمامه ومن خلفه لتأمين حياته ، الرئيس يختار حرسه وأمنه بعناية فائقة ، ينفق عليهم ببزخ ، الطريق كلها مغلقة على بعد بضعة كيلو مترات لحساب موكب الرئيس" مهووس " ، الحياة متوقفة فى قلب مدينة الأحلام عاصمة دولة منغوليا الوسطى حتى يمر الرئيس بعون الله وسلامته الى القصر المنغولى . نائبه السيد " زعزوع " يرافقه فى نفس السيارة . لم تكن مثل السيارات الآخرى . إنها سيارة مصفحة ، لايستطيع المعارضون أو المعوقين النيل منها ، ربما سيلقى الرئيس خطابا فى شعب دولة منغوليا الوسطى من قصره أو سيكون فى إستقبال مسئول مهم من دولة شرشوحة العظمى أو دولة كوهين الشيطانية ، إقترب الموكب بثقة وكبرياء من ميدان الحرية .كان يضم تماثيل زعماء منغوليين سابقين لدولة منغوليا الكبرى ومؤسسها السيد " منغول  الأكبر " . تفتت تلك الدولة على مدى العصور السابقة الى دويلات صغيرة ، أبرزها دولة منغوليا الوسطى . ربما أطلقوا عليها هذا الإسم لأنها تتوسط كل الدول المنغولية بما فيهم منغوليا الشمالية ومنغوليا الجنوبية والشرقية والغربية . الدولة المنغولية الكبرى هذه كانت من قبل يطلقون عليها أيام الأجداد الدولة الفردوسية الكبرى ، بمرور الزمن تحول شعبها من فردوسى الى منغولى . بعض الشعوب فى مختلف الدول المنغولية بما فيهم دولة منغوليا الوسطى لم يتحول الى منغولى وظل محتفظا بهويته الفردوسية . توقف موكب الرئيس " مهووس " فى قلب الميدان . هبط من سيارته الفارهة متجها نحو تمثال السيد منغول محييا ومعظما ، طقوس تعود عليها الرئيس " مهووس " وربما الرؤساء المنغوليين السابقين ، يعتقد أنه يستمد منهم العزيمة والإصرار وربما الإلهام والقوة . كثيرا من جماهير شعب منغوليا الذين أجبروا على الوقوف ومتابعة الموكب يتطلعون بضيق وإستنكار . الرئيس " مهووس " يتوقف أمام قدمى تمثال السيد منغول الأكبر ، أحنى رأسه بايماءة خفيفة . نائبه السيد " زعزوع " يقلد بطريقة آلية ، بطنه ممتدة الى الأمام ، وجهه شمعى خال من أى تعبيرات ، لاتعرف مايدور بداخله ، يخفيها عن الآخرين بضحكات بلهاء ، دائما ينفذ تعليمات الرئيس " مهووس " دون تفكير ، لم يختلف معه يوما من الأيام ، على الأقل يبدى ذلك . هبت رياح عاصفة محملة بالأتربة والرمال فجأة ، دائما تهب عليها تلك العواصف دون سابق إنذار . طقس دولة منغوليا الوسطى متذبذب ، ربما كل الدول المنغولية لايثبت على حال واحد ، أحيانا تأتى الفصول الأربعة فى يوم واحد ، شعبها هو الآخر تأثر بذلك المناخ الغريب المتقلب والمتذبذب دائما . تغير وجه السماء ، أصبح يغلب عليه اللون الأحمر القانى والأسود القاتم . تلك العواصف لم يكن لها موسم أو وقت محدد ، قد تهب فى فصل الربيع الذى فقد خواصه وظواهره مثل بقية الفصول ، لقد تغير طقس منغوليا الوسطى وكل الدول المنغولية التى تلاصقها بما فيهم دولة كوهين الشيطانية المغتصبة لأراضى منغولية . أيضا أصبحت الزلازل والبراكين تصيبها بين الحين والآخر . كان أفظعها وأكثرها تدميرا ودموية البركان الذى أصاب دولة منغوليا الوسطى فى عهد الرئيس الراحل . أسفر عن تلوث بيئتهم بما فيه النهر الكبير . لقد أصبح مشوها كالأطفال المنغوليين بعد أن تعرضوا للعنف والقهر الذين أطلقوا عليهم هذا الإسم مؤخرا ، إزداد تشوههم بعد أن تم حشو رؤسهم بأفكار غريبة ملوثة مستوردة ، لم تستطع عقولهم التأقلم معها ، نمت هذه الأطفال المشوهة بإضطراب وفوضى ، أصبحوا فتيانا وشبابا ، تزوجوا وتكاثروا بشكل وبائى . كانت تغلب عليهم جميعا الصفات المنغولية ، سرعان ما تحول غالبية المجتمع بمرور السنون الى شعب منغولى ، لم ينجو منه إلا الرافضون لهذه الأفكار المتوحشة وتمسكهم بقيمهم وعاداتهم الفردوسية ، أيضا كانوا حريصين على التزاوج من بعضهم فنتجت أسر صحيحة نجت من كل هذه التشوهات . كان الغبار يحجب الرؤيا عن العيون فى ميدان الحرية بمدينة الأحلام بأسرها من جراء تلك العاصفة الخائنة ، تقدم نحو الرئيس " مهووس " مجموعة من القناصين يحملون أسلحتهم المخادعة عندما كان يحنى رأسه أمام تمثال السيد منغول الأكبر ، ظن حرسه أنهم اتو لتحيته وربما كان معدا ذلك من قبل الأمن ، لم يدر بخلد الرئيس أن أسلحتهم متخمة بالذخيرة الحية ، مجرد التفكير فى قتله أمر غير وارد بمخيلة الرئيس " مهووس " ، تقدموا نحوه بجرأة وشجاعة ، تقابلت عينيه بعيني القناص " إسلام الكاشف " ، دوت طلقات نارية مباغتة ، حدث هرج ومرج بميدان الحرية ، ظن الكثيرون أن العاصفة قد حطمت تماثيل الرؤساء ، بعدما تصاعد إطلاق النار فى اكثر من جهة بالميدان أيقن حرسه أنها مؤامرة لإغتيال الرئيس " مهووس " ، أخذت الأرجل المذعورة تروح وتجيء على غير هدى ، مازال الغبار يحجب الرؤية ، السيد " زعزوع " تجمد فى مكانه من الخوف عندما رأى بعينيه سقوط الرئيس " مهووس " على الأرض ، غارقا فى دمائه ، تملأها الدهشة والإستنكار ، غير مصدق لما حدث . القناص " إسلام الكاشف " مايزال يصب غضبه ولعناته ورصاصاته فى قلب الرئيس " مهووس " ورأسه حتى لايكون هناك فرصة واحدة لنجاته من الموت ، تمت محاصرته من الحرس والحراس ومطاردته حتى تمكنوا من القبض عليه هو ورفاقه ، لم يبال أو يهتم ، أحس بالراحة والسكينة تنساب بين ضلوعه بعد أن حقق هدفه . كان السيد " زعزوع " قد أفاق الى نفسه واستطاع  الإختفاء داخل السيارة المدرعة . بعد ان أحس بالأمان أتجه نحو الرئيس " مهووس " فوجده قد فارق الحياة نتيجة سكتة قلبية وليس بسبب ماأصابه من رصاصات قاتلة . تم إيداع القناص " إسلام الكاشف " هو ورفاقه لحين التحقيق معهم ومعرفة الأسباب الحقيقة وراء إغتيال الرئيس ومن هم ورائهم ، لم يكن هذا الأمر مفاجئا للشعب المنغولى ، لقد تم إغتيال الكثير من الرؤساء والمسؤلين المنغوليين على مدى العصور وإن إختلفت الأسباب والطرق . كانت محطات التلفاز الأجنبية قد إلتقطت صورة الرئيس " مهووس " اثناء اغتياله ، اضطر التلفاز المنغولى أخيرا الى إعلان وفاة الرئيس " مهووس " بعد أن حل محله السيد " زعزوع " . أعلنت حالة الطوارىء فى دولة منغوليا الوسطى لحين إشعار آخر . كانت العاصفة قد توقفت تماما . تم عمل إقامة تمثال جديد للرئيس " مهووس " لينضم الى تماثيل الزعماء الآخرين بميدان الحرية .








القلب المسروق (2)

فى أول خطاب للرئيس زعزوع أعلن لا تغيير فى سياسة البلاد ، أثارت تلك الكلمات سُخطْ وغضب الشعب المنغولى وعلى رأسهم القوى المعارضة ، لم يكن لديهم اقتناع كاف بتوليته رئيسا لدولة منغوليا الوسطى ، يعتقدون أنه غير مناسب ولن يقدم أى جديد . كانت كلماته تخرج من فمه مهزوزة ، غير قادر للسيطرة عليها ، إنه يشعر بأنه يرتدى حلة أنيقة واسعة عليه وغير مناسبة له تماما مما أثار ضحك وسخرية الكثير منه ، انتشرت قوات الأمن والاستخبارات فى أرجاء البلاد بناءً على توصياته لمعرفة  اتجاهات وآراء الشعب المنغولى فى الخفاء :
- حظه كان النائب الأول للرئيس مهووس.
- عرفنا أن المرحوم كان حرامى وشبع ....، لسه هننتظر لما زعزوع يسرق ويشبع كمان .
- دول ما بيشبعوش ....، والمصيبة أن فلوسهم بيهربوها فى الخارج .
- على رأى المثل كلهم......... ، ادخل الزريبة واختار ............
- البشاير باينه من أولها ، بيقلك نفس الكلام .
- سمعت آخر نكته .....، الرئيس زعزوع ....،
القلق والاضطراب ينضح من وجوه الناس ، رياح التغيير لم تهب بعد كما يظنون ، لقد خيب الرئيس "مهووس" آمالهم ومن قبله الرئيس عباس كما يعتقد المعارضون بكل طوائفهم ، تناقلت الهمسات بينهم بأن الرئيس "زعزوع" له صلة بحادث اغتيال المرحوم "مهووس" بالاتفاق مع الاستخبارات الشرشوحية لتوليته رئاسة البلاد مكانه ، لقد قدم المرحوم كل ما عنده من تنازلات ، لم يكن أمامهم إلا الخلاص منه ليحل محله نائبه لتكتمل مسيرة التنازلات والعطاءات لصالح دولة كوهين الشيطانية بالطبع .لقد بدأت بمعاهدة الوفاق بما فيها من تطبيع وبنود سرية ضمنت حياد أكبر دولة منغولية كانت تقف فى وجههم دائما لتحول دون تنفيذ مخططاتهم ، يخشون أن تفيق وتعود كسابق عهدها ،  الرئيس "زعزوع" فى مأزق ، يحاول تبرير موقفه من اغتيال الرئيس "مهووس" وكسب المعارضة بجانبه فى هذا الوقت بالذات ، أيضا لا يخسر ولاءه لشرشوحة العظمى وكوهين الشيطانية ، إنها معادلة صعبة كما يعتقد المعارضون وعلى رأسهم حزب الاصلاح الذى يتزعمه السيد نور . كانت تربطه به علاقة وطيدة من قبل . لقد ظل مقيما فى شقة بعمارته المطلةعلى النيل الكبير حينما كان ضابطا صغيرا بالجيش ، ما زالت تلك الأيام محفورة فى رأسه ، لقد انصهرت الأسرتان معا ، زيارات دائمة ، مجاملات،زوجة السيد زعزوع تلازم زوجة السيد نور لأوقات طويلة وخاصة أنه كان يقضى وقتا طويلا بعيد عن بيته بحكم عمله كضابط بالجيش المنغولى ، الأولاد فى أعمار متقاربة من بعضهما ، الابن سعيد محببٌ بين الجميع سواء من والده الرئيس أو السيد نور نفسه ، يختلف كثيرا عن أخيه عزيز واخته يسرى ، قلبه يخفق دائما بحب "شيماء نور" ، حتى بعد أن تركوا شقتهم  فى الخفاء يتابع أخبارها بالجامعة . ، يتمنى أن يقترن بها ولكن ليس قبل إزالة الصدع ومداواة الجرح القديم . لقد تم اعتقال والدها من قبل على أيدى والده فى عهد الرئيس الراحل "مهووس" . الخلافات السياسية تحول دون تحقيق أمنياته ، أحس أن الفرصة أقبلت نحوه عندما استدعاه والده ليشير عليه قائلا :
- أفكر فى كسب أحزاب المعارضة وخاصة حزب الاصلاح و...،
قاطعه :
- تقصد السيد/ نور
- نعم ، سوف أستدعيه للتفاهم معى و...،
قاطعه:
- بل يفضل أن تزوره فى بيته وتجدد العلاقات معه من جديد .
- ولكننى رئيس دولة منغوليا الوسطى الآن .
-        وأيضا كنت سببا فى اعتقاله من قبل .
-        كنت أنفذ أوامر الرئيس مهووس كما تعلم .
-        إذا زيارتك له فى بيته ضرورية لتفسير ما حدث من سوء فهم .
-        قد يظن ذلك ضعفا منى وأن يفهم أننى أتقرب منه لكسبه بجانبى فى بداية حكمى و......,
 قاطعه :
- سيكون ذلك فى سرية تامة  دون علم أحد .
 ضاع سعيد فى أفكاره , اعتقد أن الفرصة المناسبة مهيأة  الآن  ,المهم      المدخل الذى يضمن فتح قلب وعقل والده على مصراعيهما . فاجأه :
-        فيما تفكر ياسعيد ؟
-        أفكر فى كيفية استثمار هذه الزيارة لصالحنا .
-        كيف ؟
-        لو طلبت منه أن يزوجنى بنته شيماء و ....,
 قاطعه :
-        أعلم أنك تميل إليها ولكن هل تود الزواج منها حقيقة ؟
-        أى إنسان يتمنى الارتباط بها .
   بلهفة وبدون تفكير :
-        فعلا هى رائعة .
 أحس الرئيس زعزوع بالثقة والاعتزاز , إعتقد أنه ماض بخطوات ثابتة متزنة نحو تثبيت قبضته على دولة منغوليا الوسطى ,أيضا قام ببعض التغيرات التى تسير فى نفس الإتجاه , منها تغير وزير الداخلية . كانت هناك شائعات تؤكد أنه كان لديه علم كامل بمؤامرة إغتيال الرئيس "مهووس" , أيضا قام بتغير كل رؤساء المصالح المؤثرين فى الدولة وزرع العيون والجواسيس حولهم , لايهمه أن يكونوا أكفاء بقدر أن يكونوا موالين له ولنظامه بكل دقة واخلاص . عندما تقابل مع السيد/ نور أحتضنه بحرارة أمام أهل بيته , أستطاع أن يمثل دور المحب المخلص ببراعة واتقان ، لقد تعجب ابنه سعيد ، لم يصدق عينيه ، تمنى أن تكون تلك اللحظة قد أزالت كل الهواجس وأذابت أنهار الثلوج  المتجمدة التى تفصل بين قلبيهما ، تلتها ترحيبات وتحيات وكلمات تشيد بالماضى وذكريات حلوة إلى أن قال :
- طبعا أنت مندهش يا سيد/ نور لهذه الزيارة .
- كلا ، لقد جمع الحب والود بيننا وابنك سعيد الذى شرفنا له أهمية خاصة و....،
قاطعه :
- زيارتى لك تتعلق أساسا بسعيد.
- خير يا سيد زعزوع ؟
على مهل وبثقة واطمئنان قال :
- إبنى سعيد يتشر ف بطلب الزواج من ابنتك العزيزة شيماء.
تغير وجه السيد/  نور ، لم يفكر فى هذا الأمر من قبل ، كان طلبا مفاجئا ، أخذ يقلب الأمور فى رأسه بسرعة ، أحس أن وراء هذه الزيجة أهدافا أخرى غير معلنة وإن كان  إبنه سعيد يختلف عنه كثيرا، أخيرا اهتدى إلى رأى يعتقد أنه مناسب .
- طبعا يشرفنا يا سيد زعزوع ولكن يجب أن نأخذ رأى شيماء وهذه الشكليات .
- شيء طبيعى ولكن المهم أن يكون الرد فى أقرب وقت ممكن .
- طبعا، طبعا .
- هناك أمر آخر يجب أن أوضحه لك يا سيد/ نور.
- أى أمر؟
- بخصوص اعتقالك الأخير ،  لم يكن لى أى دورلأننى كنت أنفذ سياسة المرحوم "مهووس" كما تعلم ، وهذا هو السبب الآخر الذى أتيت من أجله لزيارتك .
ضاع السيد نور فى أفكاره ، إنه ما زال يتذكر تلك اللحظات المحفورة فى مخيلته عندما داهموه فى الهزع الأخير من الليل ، اقتحموا حجرة نومه ، كانت زوجته بنصف ملابسها ، كمموا فاه ، كبلوه بالأغلال أمام أولاده . كانت الجنود تحاصر البيت من كل اتجاه ، لم يعرف تهمته الشنعاء ، قادوه فى الظلام ، عجزوا عن معرفة مكانه، انقطعت كل صلتهم به تقريبا ، لم يعد إلى بيته إلا بعد عام كامل . فاجأه قائلا عندما أفاق لنفسه :
- ما كان عليك إذن يا سيد زعزوع أن تعلن أنه لا تغيير فى سياسة البلاد .
- أنت راجل سياسى وتعرف ألاعيبها، إنها مجرد كلمات لإرضاء الموالين للمرحوم وخاصة أن هناك إشاعات تؤكد أننى وراء اغتياله و...،
قاطعه :
- الاشاعات كثيره  ولو مشينا خلفها و...،
قاطعه :
- لذلك يجب القضاء عليها فى مهدها ويعلم الشعب المنغولى الحقيقة .
- تقصد الحقيقة من وراء اغتيال الرئيس مهووس؟
- بالضبط . لقد كانوا يخططون لقلب نظام الحكم بعد الاستيلاء على السلطة كما اتضح و ....
قاطعه :
- معنى ذلك أنك تنوى تغيير سياسة البلد يا سيد زعزوع .
بكلمات متلاحقة وكأنه يحفظها عن ظهر قلب .
- طبعا ..طبعا ولقد اجتمعت مع زؤساء المعارضة وعرفت مطالبهم ولديهم الحق فى الكثير منها .
انفرجت شفتى سعيد عن ابتسامة عريضة عقب الكلمات الأخيرة من والده ، عقب عليها قائلا .
- إذن لن يكون هناك اختلافات سياسية كبيرة بينك وبين أحزاب المعارضة يا والدى .
- طبعا ..طبعا وخاصة مع حزب الاصلاح .
أحس سعيد أن كل شيء تم كما أراد له.كان ذلك فى حضرة أخيها نضال ، لم يتفوه بكلمة واحدة إلا بعد أن غادر الرئيس زعزوع وابنه بيتهم . قال لوالده .
- أنا أرفض هذه الزيجة يا والدى .
الأسرة كلها وافقته الرأى بما فيهم أخته شيماء التى كانت تحس بالميل إليه ، ربما قلبها متعلق به . المشكلة كانت تكمن فى إبلاغ سعيد ووالده الرئيس خبر رفضهم لهذه الزيجة ، بعد مشاورات اتفقوا معا على هذه العبارة .
- حتى تنتهى من دراستها سوف نقرر الأمر .
لم يضجر أو يتضايق الرئيس زعزوع عندما أخبروه ، أحس أنه ضرب عصفورين بحجر واحد ، كسب السيد نور بجانبه فى هذه الظروف الصعبة وارضاء ابنه سعيد ، عندما تناقش مع زوجته نيران هانم بهذا الصدد أثارت فى نفسه الحمية قائلة :
- كيف يرفض طلبك ؟!
كان ذلك فى وجود ابنها "سعيد" .
- ليس رفضا يا أمى .. لو كنت مكانه لما فعلت غير ذلك
منذ تلك اللحظة وهو يفكر بجدية لمقابلتها والتفاهم معها عن قرب ، إنه يعتقد أنها تميل إليه حتى وهما طفلان صغيران ، بعد أن ناقش الأمر من كل جوانبه بينه وبين نفسه قرر أمر جلل ، أخذ يعد له فى الخفاء مستعينا  بنفوذه ، إنه ابن رئيس دولة منغوليا .










القلب المسروق ( 3 )

اعتقد "سعيد زعزوع" أن شيماء أصبحت شريكة حياته رسميا منذ لحظة طلب زواجها بغض النظر عن المراسم الأخرى. مجرد وقت وليس أكثر ، عندما تنتهى من دراستها الجامعية .ستكون عروسه ،  لقد تبددت حواجز الخوف وعدم الثقة بين والده ووالد "شيماء" الذى يكن له حب فياض جامح كما يعتقد "سعيد ". ما زال يذكر حادثة سقوطه من فوق شجرة التوت التى ما زالت كائنة بحديقة بيت السيد نور .كان طفلا صغيرا ، فى التو حمله فى سيارته  إلى مستشفى الحكمة الخاصة القريبة من البيت بمدينة المحروسة متحملا وحده كل الأعباء والمشقة . كان قد كُسرت ساقه اليمنى ، لم يعلم والده المشغول بعمله دائما شيئا إلا بعد عودته ببضعة أيام ، إنه يخشى مقابلة شيماء خوفا من أن يغضب والدها إذا علم بالأمرأو يتبدل هذا الحب الذى يكنه له إلى بغض وكراهية  ،قد يظن أن هذا الأمر يلوث سمعتها أو شرفها إذا علم بمقابلتها له دون علمه ، حبه الجنونى لها أعمى عيناه عن كل شيء ، اندفع بسيارته الخاصة نحوها دون أن يدرى. كان الحرس فى انتظاره ، أنه دبر لهذا اللقاء فى سرية تامة دون علم شيماء نفسها أو أحد من أهلها. كانت قد انتهت من محاضرتها . فاجأها رئيس الحرس .
- لو سمحتى تعالى معايه .
وقعت تلك الكلمات عليها كالصاعقة ، أحست أن لها طعما ورائحة غريبة . اللهجة الآمرة المتسلطة تعرفها جيدا ، بتلعثم والحيرة تتقاذفها .
- لم أفعل شيئا و....
قاطعها :
- لا تخافى .. هناك من يريد مقابلتك .
- من ؟!
- ستعرفين الآن .
وقع قلبها في رجليها،  ظنت أنهم سعتقلوها ، إنهم يستخدمون أساليب خبيثة مباغتة ، انساقت خلفه مسلوبة الإرادة ، أفكارها المباغتة تجرى فى كل اتجاه ، توقفت عندما اصطدمت عيناها بشبح طويل القامة ،  يخفى عيناه وراء نظارة سوداء ، يخيل إليها أنها تعرفه أو رأته من قبل .
- ربما يكون ضابط مخابرات من الذين قاموا باعتقال والدها من قبل ، زادت دهشتها واضطرابها عندما أمرها بالركوب داخل سيارته .
- إركبى يا آنسه شبيماء ، أود التحدث معك فى أمر مهم .
- لكننى ...
 قاطعها :
- لا تخافى أنا سعيد.
على الفور فُتح الباب الخلفى للسيارة فاندست داخلها دون أن تدرى ، انطلقت السيارة فى صمت مخترقة الشوارع  وكأنها تتجه نحو هدف محدد ، بارتباك قالت شيماء مستفسرة :
- أنتم ها تخطفونى ؟!
انفرجت شفتى سعيد عن ابتسامة عريضة ، على مهل ويتلفت خلفه تجاهها 
- زى ما خطفتى قلبى هخطفك.
استعادت جأشها قليلا ، تبددت مخاوفها بأمر اعتقالها وإن كان الخوف
 ما زال يسيطر عليها ، إنها لا تدرى أى مجهول ينتظرها . كان سعيد يرتدى حلة أنيقة ، ذات مواصفات خاصة . توقفت السيارة أمام مبنى غريب يشبه الكافتريا ، لم تتعود هذه الأماكن ، الأبواب تحاط بحرس ملفت للانتباه، عندما مرق سعيد أمامها انحنت له الرؤوس محيية ، ذات وجوه حادة ، لم تحس بالراحة نحوها ، تمر على شفاههم ابتسامات صفراء مغتصبة ، عشرات الأسئلة تدور فى رأسها ولكن لسانها عاجز عن التلفظ بكلمة واحدة  ، إنه مكبل داخل فمها ، لا يقوى على الحركة ، استيقظت من أفكارها على صوت النادل وهو يقدم لها كوبا من العصير .
- العصير يا أفندم .
مدت يدها بتكاسل . كان سعيد يجلس فى المقعد المقابل لها، تفصلهما عن بعض منضدة صغيرة دائرية ، لم يكن هناك غيرهما بالصالة باستثناء وجوه تروح وتجيء ذات نظرات ثاقبة ، بعضهم يشهر سلاحه فى تحد ، آخرون يخفوها داخل ملابسهم ، لم تستطع تحديد هوية هذا المكان بالضبط . كانت تقبض على كشاكيل محاضراتها بتشبس واصرار ، سقط احدها على الأرض ، دارت صفحاته حتى توقفت على محاضرة التاريخ الأخيرة . كانت شيماء تدون النقاط الأساسية مع بعض تعليقاتها الخاصة ، وقعت عينى سعيد على عبارة .
- تاريخ مزور .
لفتت انتباهه ، انحنى ملتقطا الكشكول من على الأرض ليعيده إليها ، سألها
- ماذا تقصدين بتاريخ مزور ؟
بارتباك وكلمات متباعدة .
- أقصد أن الأستاذ مُستأنس أفكاره متضاربة
فاجأها سعيد قائلا :
- الأستاذ مستأنس الشرخة أعرف أنه صاحب مباديء على ما أظن
- كنت أعتقد ذلك ولكنه على سبيل المثال كان يمجد ويفتخر بالرئيس مهووس وبعد رحيله تناقضت كلماته السابقة فى محاضرته اليوم .
- ربما كان مخدوعا فيه وعرف حقيقته .
- يبدوا أن الحقيقة غائبة لدينا دائما .
بعد صمت وتفكير قال
- ممكن نغيره بأستاذ آخر إذا ...
قاطعته :
- الأمر لا يستدعى ذلك ، إنه مجرد اختلاف وجهات النظر ، قد يكون على صواب .
-عموما لا تضايقى نفسك بهذه الأشياء التافهة فلنفكر فى أحوالنا .
- كلها هموما واحدة .
- دائما ترددين أفكار والدك وأخيك نضال و...
قاطعته :
- ممكن أفهم سبب اعتقالى ؟
بكلمات متباعدة تتخللها ابتسامة عريضة ونظرات حالمة .
- أنا السجين وليس أنت ، لم يعد قلبى ملكا لى ، أود أن أوضح لك الأمور المتشايكة .
ضاعت شيماء فى أفكارها ، توقفت عند طفولتها . كان سعيد يلازمها دائما وهى تجمع ثمار الفاكهة من حديقتها ، يلعب معها ، يدفع أرجوحتها برفق وحنان وهى تحلق عاليا ، تتعالى ضحكاتها . كانت أرجوحتها تربض تحت شجرة التوت ذات الثمار السوداء المحببة إليها ، عزيز أخوه يطردها منها ويحتلها ،. كانت لعبته المفضلة عسكر وحرمية . معظم الأطفال يلعبون معه بالاكراه  . كانت الحديقة ملتقى لكثير من أطفال الحى ، دائما يختار الضابط والجميع حرامية . نهره أخيه سعيد ذات مرة قائلا .
- ليه أنت كل مرة الضابط ؟
- علشان لما أكبر هكون ضابط .
 كان عزيز يكبر الأطفال جميعا بما فيهم أخوها نضال ، عندما رفضت  اللعب معهم ركبت  أرجوحتها ،فجأة دفعها بقوة ، فقدت توازنها ، سقطت على الأرض ، كُسرت سنتها الأمامية ، صرخ سعيد وهو يردد بهستريا .
- دم ... دم
هجم عليه أخوها نضال ، كاد يسقطه أرضا لولا تدخل عم عبده الجناينى . كان حمامة السلام والأب الحنون لهم جميعا ، لم يكن يعلم بما حدث ، عندما وقع نظره على شيماء استشاط غضبا ، صرخ فى وجه عزيز .
- أنت لا تأخد منهم حاجتهم لا تضربهم .. ما معنتش تلعب معاهم .
أخذ سعيد يمسح دم شيماء بملابسه الجديدة ، منذ تلك اللحظة لم يعد عزيز يشاركهم ألعابهم فى وجود عم عبده الجناينى ولكنه كان ينقض عليهم كالنسر الجائع فى غيابه ، يخطف ما فى أيديهم من فاكهة جمعوها من أشجار الكمثرى والبرتقال واليوسفى ثم يطير صاعدا إلى شقته أو يقطف بعض ثمار العنب التى لم تنضج بعد ويبعثرها فى كل مكان . عندما شكته شيماء إلى عمها عزيز أثناء عودته من الجيش .
- عزيز بيضربنا و...
قاطعها :
- إلعبوا مع بعض .
وعندما شكت إلى نيران هانم أمه .
- عزيز وقعنى من المرجيحة .
- ما يقصدش
قال لها سعيد الواقف بجوارها .
- يقصد يا ماما ... محدش بيحبه .....
أخرجها من أفكارها مظاهرات تردد .
- يابلدنا رايحة لفين ...
المظاهرات تزداد اقترابا منهما . كانت آتيية من الشارع الرئيسى ، تغير وجه سعيد ، أخذ يتطلع بقلق واضطراب تجاه الأصوات الهادرة المزلزلة ،. بكلمات مقتضبة .
- المعارضة هيعملوا فتنة فى البلد .
-  لم تبد أى تعليق على كلماته الأخيرة ، كانت مشغولة بكيفية التخلص من كوب العصير وكأنه قنبلة موقوتة سوف تنفجر فى أى لحظة . نهض سعيد متطلعا تجاه الشارع الرئيسى. كان المبنى مغلف بزجاج شفاف سميك ، يسمح  لمن ما بداخله رؤية ما فى الخارج ، الأصوات الهادرة تخترق أذنيه وهي تردد.
- رئيسنا لعبة وشخشيخة
قذف المتظاهرون سور المبنى الزجاجى بالحجارة ، فشلو فى اصابته . كانت لديه القدرة على مقاومة الحجارة ، هجمت عليهم عناصر قوات الأمن وكأنهم كانوا على موعد فى معركة ضارية غير متكافئة ، أصابو منهم الكثير بإصابات مختلفة ، اعتقلوا عناصر ظنوا أن لهم نشاط واسع بعد استخدامهم قنابل مهيجة للأعصاب وهراوات كهربائية تم استيرادها خصيصا من دولة شرشوحة العظمى . ماتت أصوات المتظاهرين ، لم يتبق منها غير دماء تجلطت بالشوارع ، أنين صرخات مكتومة لأجسام مهدودة على أن يتم إسعافها، رائحة البارود والدخان تقتحم البيوت ، مدرعات ومجنزرات تطوق مداخل الطرق والشوارع الرئيسية حتى امتداد النهر الكبير ، كانت مياهه آسنة يعترى وجهها عوامات ذات نفوذ كبيرة ، شاطئيه أخذا فى الانهيار . قالت شيماء فجأة بعد أن تطلعت فى ساعة معصمها .
- لقد تأخرت كثيرا ، يجب أن أذهب حالا .
نهضت واقفة ، بعد صمت وتفكير قال لها سعيد وهو يتطلع إليها بعينين فاحصتين .
- حسنا ...، سأوصلك لبيتك .
- لا داعى .
- المظاهرات تمنعك من الوصول وربما يقبضون عليك .
على مضض .
- لا بأس ولكن إلى أقرب مكان لبيتى .
بذعر واضطراب شاملين اندست داخل السيارة . كانت تخفى وجهها خشية أن يراها أحد ، الشوارع مزروعة بلافتات مكتوبا عليها.
- نعم للرئيس زعزوع ... الرخاء قادم ...
كانت الكمائن والشارات الحمراء تُفتح أمام السيارة فى التو ، تنهب الطريق ، عندما أحست شيماء باقتراب بيتها وأنها أصبحت فى مأمن قالت له .
- لو سمحت سأنزل هنا .
كانت أمها تروح وتجيء بشرفة الشقة كاللبئوة المحبوسة نظراتها تمتد بعيدا ، لم تتعود تأخرها ، تخشى أن يكون قد وقع لها حادث ، أو....، بمجرد أن وقع نظرها عليها صرخت فيها قائلة :
- أنت تأخرت ليه؟!
بعد صمت وتفكير محاشية تقابل وجهها بوجه أمها .
- المواصلات مقطوعة بسبب المظاهرات و....
قاطعتها :
- الشيطان قاعد يوسوس لى من ساعتها.
ضاعت شيماء فى أفكارها ، كانت فى حيرة من أمرها ، إنها لا تخفى عن أمها شيئا ، قد تكتشف يوما أنها قابلت سعيد وأخفت عليها ، أيضا قد تكون مصلحتى فى عدم لقائه ومقابلته ، أخرجتها من أفكارها رياح غاضبة ، تصفع الشرفة على وجها . كانت الأوراق والأشياء النائمة فوق مكتب شيماء فى مواجهتها ، تطايرت وسقطت على الأرض ، أخذت تتابع ركلاتها لجريدة منغولية ، تفككت صفحاتها فى كل اتجاه . كانت الرياح تهب على منغوليا الوسطى طوال العام دون سابق انذار ، لا تميز بين فصول الشتاء أو الصيف ، دائما محملة بالأتربة والغبار والرمال ورائحة نفاذة ، وقعت عينى شيماء على الصفحة الأولى من الجريدة ، مطت شفتيها بامتعاض ، ضاعت فى أفكارها ، بعد أن أغلقت أمها الشرفة أخرجتها من أفكارها متسائلة .
- فيما تفكرين يا شيماء ؟
وهى تهز رأسها باستنكار
- أفكر فى أحوال البلد بعد أن أصبح عم زعزوع رئيسا للدولة .
قالت الأم وهى تأخذ نفسا عميقا .
ستصبح أسوأ ما هى عليه الآن .
- ولكنن أعتقد أن عمى زعزوع طيب .
- المشكله انه يفكر بأذنيه وزوجته نيران هانم لها تأثير طاغي عليه وسوف ينعكس على تصرفاته .
- كيف ؟
- أقصد أن نيران هانم ذات تأثير طاغى عليه وسوف ينعكس ذلك على سياسة البلد
- لا أظن
- إن حكمك عليه عندما كنت طفلة صغيرة ، لكن يجب أن تعلمى أنه لا يفعل شيئا دون الرجوع إليها منذ بداية زواجه .
- لم أفهم مقصدك يا أمى .
بكلمات متقطعة وابتسامة تمر على شفتيها .
- لقد ذكرتينى يوم أن جاء لاستئجار شقتنا بعد الاتفاق على كل شيء مع والدك .
- هل نقض كلامه أم تشاجر مع نيران هانم ؟
 لقد صرخ مستغيثا لتدخل والدك لاقناعها وهو يردد.
- خامس شقه ترفضيها. لم نجد أفضل من ذلك ثم أننى اتفقت مع السيد نور
 ببرود ودون مبالاة :
- قلت لك ألف مرة فكر وحاول أن تفهم قبل أن تتكلم ... قلت أننى موافقة على الشقة بشرط أن تغير بدلة الفرح و...
قاطعها :
- إنها بدلة ثمينة وغالية الثمن.
قاطعته:
- دائما تخلط الأمور ببعضها ، أنا أتكلم عن لونها الذى يشبه بدل الجنود ولا يتناسب مع فستان زفافنا .
- أغير البدلة ، فى حاجه تانيه ؟
- والحذاء غير مناسب أيضا
- ماذا فى الحذاء؟
- يجب أن يكون كعب عال حتى يعوض الفرق فى الطول بينى وبينك ليكون منظرك مناسبا وملائما أمام أقاربى وكل المدعوين
- أمرى إلى الله ... المشكلة أننى لا أستطيع أن أرفض لكى طلب
قالت شيماء لأمها التى كانت مصغية لها بكل حواسها وكيانها وعقلها حتى قالت
- تقصدين أنه يحس أنه من طبقة دون طبقتها؟
- نعم . اضافة إلى ذلك أن لهجته تميل إلى لهجة الفلاحين بينما لهجتها أخذت لهجة المدينة ... فيحاول تقليدها فتضيع منه الحروف وتتشابك ويبدو مهزوزا .. ثم أنها جميلة للغاية وذكية
- ربما يتغير ويثور عليها بعد أن أصبح رئيسا للدولة
- إنه ضابط ويجيد تنفيذ الأوامر وتعود على أن لا يكسر أوامرها
- ربما هو الذى يفرض أوامره عليها بعد ذلك .
- لا أظن .
- وكيف يكون رئيسا لدولة منغوليا الوسطى إذن ؟!
- ربنا يُستر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق