الأحد، 14 نوفمبر 2010

القــــطــار - من مجموعة مسافات مفقودة



القــــطــار

جسمه أملس ناعم ، عيناه واسعتان تكشف مخاطر الطريق في الظلام ،لغات و أصوات  مبهمة تهب من جوفه ، أفرغ من رأسه صفارات مزعجة في أذن الهواء ، أرجله لا تكف عن الدوران . أشعة الشمس تبسط نفوذها فوق رأسه ، دائما ماض في نهب طريقه ، كتلة لحم  انصهرت في بوتقته ، أرجله الثقيلة تختلس خطوات وئيدة على شريطه الصلب الممتد عبر الأبصار ، أحدهم يجري خلفه محاولا اللحاق به، سقط على الأرض ، نهض ثم جرى وجرى ، قفز في الهواء متعلقا بأحد أبوابه بينما آخرون يشيعون جنازته في صمت بعد أن أدركوا أنه قد فاتهم 0 كان الصراع والخلاف دائما على مقعد خال يغتنمه أحدهم قبل منافسه . نظرت الأم بأنفاس مكتومة تجاه الشبح المعلق بالخارج . كان هناك آخرون يمتطون ظهره ، احتضنت طفلها بحرارة ، المحصل يشق طريقه بصعوبة بين أجساد المسافرين ، ثمة متسول يصيح بكلمات يحفظها عن ظهر قلب مرتديا ملابس غيرت من شكله .
ـ لله يا محسنين لله .
امتلأ جيبه ولكن صيحاته ما زالت تتوالى ، قهقهات تنبعث من ركاب الدرجة الأولى ، كانت هناك فتاة فائرة لولبية تطقطق بين أسنانها قطعة من " اللبان" ، وجدت ما كانت تبحث عنه ، همس الشاب في أذنيها ، القطار ماض في شق طريقه بين القرى الباهتة ، بيوتها متصدعة ، أعواد القش تملأ سطوحها ، التراب يغطي وجهها ، الأطفال تسبح في أكوام الروث ، البيوت متداخلة متلاصقة  مع بعضها البعض بينما عمارات شاهقة تنفرد في أحد الأماكن الأخرى ، البائعون داخل القطار لا يكفون عن الصراخ ولكن المعلم "كموشة " أكثرهم تميزا يمسك قطعة من الحديد يدق بها طرقات متتالية على دلوه الذي يحمله على كتـفه .
ـ كوكاكولا . مثلجة . روق دمك ....
يدفع الركاب بكرشه المنتفخ ، يفتل شاربه المعقوص بين الحين والآخر . رصدت الأم المطواة البارزة من بين ملابسه ، أشاحت بوجهها عنه ، ضمت طفلها إلى صدرها الذي راح في النعاس ، عجلات القطار تدور بسرعة ، تذكرت الشبح المعلق على الباب ، سألت عنه ، الأفواه مغلقة ، الوجوه مكسوة بظلال شاحبة ، صرخ أحد المسافرين .
ـ فلوسـي ..... فلوســي ....
لم يسمع غير صدى صوته ، الأم تخبئ طفلها بين ذراعيها ، حرارة الجو تـلفح وجوه المسافرين ، رائحة العرق تملأ أنوفهم ، زفرات حارة تنبعث منهم ، نظرت الأم خارج النافذة ، الوحل يسد الطرق الكثيرة الضيقة ، أعواد الذرة غارقة  في حقولها ، الدواب هزيلة متناثرة ، تترنح بخطوات ميتة ، المعلم " كموشة " يغادر الدرجة الثالثة متجها إلى ركاب الدرجة الأولى ، المسافرون يفسحون له الطريق ، الأم ترمى بنظراتها عبر نافذة القطار ، إلتقت عيناها بمبنى ضخم منعزل تتطلع من خلف نوافذه أشباح صفراء ، تنسكب من عيونهم نظرات ميتة ، كانت هناك لافتة مكتوب عليها .
ـ السجن العمومي .
اشتعلت في رأسها الأفكار ، ضمت طفلها إلى صدرها ، مسحت على رأسه ، فرت قطرات ساخنة من عينيها، بللت وجه طفلها ، قبلته بحنان ، صيحات تنبعث من ركاب الدرجة الأولى ، يدخنون بلذة و شراهة ، يتطلعون من خلف ستائر نوافذهم ، الفتاة اللولبية تنادي على المعلم "كموشة" :
ـ كوكاكولا .
أجابها بصوت هادئ متكلف :
ـ اتفضلي .
كانت تجلس متلامسة مع رجل اقتنصته أخيرا بعد أن انصرف الشاب الأول ، القطار يجري بخطوات متلاحقة ، أخلدت الأم إلى النوم ، أحد البائعين ينادي :
ـ سجائر ، حلويات .
جذبت انتباه الطفل قطع الحلوى ، سال لعابه ، تسلل من بين ذراعىْ أمه ، عاد المعلم "كموشة " إلى الدرجة الثالثة ، لا يكف عن السباب واللعان ، بدأ القطار يهدئ من سرعته ، استيقظت الأم على صوت أحد الحمالين .
ـ شيال ... شيال .
أخذت تـفرك عينيها ، رأسها يدور . توقفت عجلات القطار ، أخذت الأم تثرثر مع طفلها ، خرست قبل أن تنتهي من كلماتها الأخيرة ، حملقت في الطفل ، تفرست الوجوه ، همست في ضعف قائلة .
ـ ده مش "مرزوق" ؟
دارت بها الأرض دورات سريعة متلاحقة ، اهتزت الرؤية أمامها ، احتبست صرخات داخلها ، المسافرون أشباح تتراقص بعنفوان ، تتعثر فى خطواتها ، رمت بحقيبتها وسط زحام المسافرين ، دوامات حمراء تنمو فتغرق فيها ، أمسكت سكينا كانت قد وجدته في يدها ، قفزت بسرعة تطعن أشباح المسافرين بسكينها الحاد ، الأشباح تقهقه قهقهات عالية ، سقطت على الأرض ، خر السكين من بين يديها ، تفحصته فجأة ، لم يكن سكينا بل كان بقايا رغيف خبز يقتات منه الطفل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق