الأحد، 14 نوفمبر 2010

رقصــــات الجـــنون - من مجموعة المسافات المفقودة




رقصــــات الجـــنون

يتقدم الموكب مشرئبا ، الأطفال الحفاة يتدفقون من بين أزقة القرية عابرين الأكوام الموحلة ، الغبار يتطاير فوق جبين الموكب ، سيل من الرقصات يجرفهم بطوفان الفوضى ، الخفير "سيد الوحش" حاملا بندقيته القديمة لدواعي الأمن والنظام ، يتحسسها من وقت لآخر وابتسامة عريضة تتلوى فوق شفتيه فتظهر أسنانه المتآكلة ، عيون جوعى تتطلع للأسطح المتراصة بالعذراوات . الأشجار العارية المتساقطة الأوراق تحيط بالقرية من كل جانب ، الكهرباء أنارتها قريبا ، ضوؤها خافت مرتعش ، العروس يخفي رأسه خلف الخفير " سيد الوحش " ، وصل الموكب أخيرا إلى نهاية المطاف أمام ساحة "كدابين الزفة " كما يطلق عليها أهل القرية . كانت "عزيزة " بنت عم "محمدين" تطل من فوق سطح دارها المقابل للساحة ، خصلات شعرها المتناثرة تكاد تخفي معالم وجهها ، تتطلع إلى الشمس وهى تسقط من سمائها مختفية خلف جذوع الأشجار البعيدة ، أدارت رقبتها بصعوبة فضاعت نظراتها الثكلى بقلب دائرة الموكب المتوثبة . كانت عيونه تنهش سطح دارها في الخفاء ، أخفت وجهها بين كفيها ، لاحقتها العيون الفاضحة ، نجحت في اكتـشاف ما تخفيه عن الآخرين ، تساقطت حبات عرقها في حلقها الجاف . كان طعمه لاذعا . قالت لها أختها الصغيرة وعينيها مثبتة على صدر الموكب .
ـ عايزة أروح الفرح .
أجابتها بصوت خافت متقطع .
ـ هتموتي تحت الرجلين .
فزعت الصغيرة من طلقات نارية طائشة انطلقت من فوهة بندقية الخفير " سيد الوحش " فجأة ، هرولت في هلع نحو أختها " عزيزة " تستجير بها ، احتوتها بين أحضانها وهى شاردة الفكر ، زعق والد العروس بصوت جهوري .
ـ الجــوزة ياواد يا شـحاتة .
الموكب دائرة كبيرة منبعجة في إحدى نقاطها المواجهة لبيت " عزيزة " ، تعالت الصيحات بعد صعود الراقصة على " المسرح " . كانت دعائمه مصنوعة من أرائك الجيران ، من محيط الدائرة البشرية الملتوية امتدت أيادي كثيرة ملوحة للراقصة ، تصاعدت معها الهتافات بعد اندلاع الرقصات المحمومة ، أيضا تسابقت فوق رؤوسها أجنحة دخان كثيفة ، في التو خرست الرقصات بعد صعود والد العروس على "المسرح"  ، لفته نظرات مترقبة ، أخرج من جيبه أوراقا مالية كثيرة ، أبرقت عيون الموكب .
ـ ســلام يا جــدع ... أكبر سلام للعمدة ... عم العريس ... وسلام مربع لشيخ الخفر أبو العروســة .... ودقي يا مزيكــا .
دس والد العروس الأوراق المالية في صدر الراقصة ، اضطرمت الصيحات ، نهض الخفير " سيد الوحش " صاعدا على "المسرح "، تراقص رقصات هزلية وهو يرفع بندقيته عاليا في الهواء . كان راقصا بارعا ، نافس شيخ الخفراء والعمدة في رقصاتهم ، تشابكت يداه بيد الراقصة ، اشتعلت الصيحات ، تسللت بندقيته من بين راحتيه فسقطت تحت قدمىْ الراقصة ، فاضت الدائرة البشرية بنشوى الفرح ، تمايلت على نغمات "الموسيقى " الصاخبة . كانت تهز قلوب العذارى وتذيع ما بداخلهن من أحلام وهن يتربعن على أسطح البيوت المطلة على الساحة ، انسحبت الأضواء فجأة من عيون الدائرة المفتوحة على مصراعيها ، علت فوق جبينها الاستغاثات . قالت الصغيرة لأختها بكلمات مذعورة .
ـ أني بخاف من الضلمة .
أصابت كلماتها قلبها النازف ، احتضنتها فى صمت ، تساقطت قطرات ساخنة من مقلتيها ، ابتلعتها دوامات أفكارها الحادة ، مزقت ملابسها بين أسنانها الناهشة ، غاصت بين شطآن قهرها ، هربت الصغيرة من بين أحضانها ، تتعثر في خطواتها ، أفزعتها الدائرة البشرية الغارقة في ظلامها ، انكمشت داخل نفسها ، أشاحت بوجهها فسقطت نظراتها فوق مئذنة بعيدة ، ينبعث من رأسها الشاهقة ضوء خافت ، اشتعلت الأضواء من جديد بقلب الدائرة البشرية ، تقابلت عينا " عزيزة " بعينىْ  "العريس" ، بفوضى هرب من نظراتها المسمومة فسقطت فوق والده المشغول بإصلاح "الجوزة "، بلذة شدّ منها نفسا عميقا ، توهجت الجمرات فوق رأسها ، أخذت " عزيزة " تلاحقه بنظراتها المذبوحة ، سرعان ما ضاعت بين العيون النهمة ، دون أن تدري جرفتها موجة من موجات " الموسيقى " الصاخبة ، أخذت ترقص بمجون جارف ، كادت تهوي في قلب الدائرة البشرية ، الصغيرة تراقبها بعينين فزعتين ، همسات فاضحة تسري داخل الدائرة ، تنشب أظافرها في قلبها الجريح ، تسقط ثم تنهض بصعوبة ، رقصاتها المحمومة لا تتوقف ، تعرت من ملابسها دون أن تدري ، بأنفاس لاهثة مدت ببصرها إلى الفراغ الذي يحتويها . كانت خيوط سوداء قاتمة محفورة في وجـه الســماء .
     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق