الأحد، 7 نوفمبر 2010

من مجموعة سيسقط البيت - بقلم على عوض

حادث ضد مجهول

صخب ولغط وصراخ يسود موقف الركاب ، يأتون إليه من القرى ،
سمعان هو المسئول عن أمن السوق ، البائعون المتجولون لا يلتزمون بأماكنهم ، يفرشون بضاعتهم على قارعة الطريق أمام مدخل السوق . كان ذلك يسبب الإختناقات فى الموقف فيؤثر على سير ونظام المرور .الصول سعيد صدره واسعا لا يهتم بالإختناقات أو بدخول  السيارات وخروجها أو الدوران أو تكديس الحافلات بالركاب ، وهذه الأشياء التافهة ، إنه يهتم بروح القانون ، يتفاهم مع السائقين بطريقته الخاصة ، الأسلوب اللين البسيط هو أقرب الطرق إلى قلوبهم ، لم يفكر فى عمل مخالفة لأحدهم إلا إذا كان مضطرا ، لذلك يكونون كرماء معه دائما ، حاشا لله أن يطلب منهم رشوة كما يظن بعض الحاقدين ، إنهم هم الذين يعطونه بسخاء ، هو أيضا لا يبخل على أحدهم بأى فكة من الخردة التى تملأ جيوبه ، حينما ينتهى من تجميدها يخفيها عن العيون فى جيب الجاكت الداخلى ، لقد دأب على ذلك ،أيضا هو كريم فى بيته ، كان يحمل كل أنواع الفاكهة واللحوم لزوجته وأولاده ، لا يضن عليهم بأى شىء مادامت مسطورة ، أيضا إذا ركب معه أحد فى سيارته الخاصة لم يفكر أن يأخذ منه أجرا سواء كان ذلك أثناء ذهابه الى عمله أو عودته ، لوعزم عليه بسيجارة محشوة بالبانجو أو المخدرات لايرفضها ، طبعا حتى لايقلل من شأنه ، إنه متواضع ، لذلك ربنا ساترها معه دائما فى كل خطواته ، لم يعمل غير حادثة واحدة منذ شرائه سيارته الجديدة ، لقد دهم خروف ظهر له فجأة فى طريقه ، لقد عفا عن صاحبه ولم يعمل له مخالفة ، لولا أنه سائق ماهر لانقلبت سيارته الفارهة ، مشكلته أنه يكون عصبى المزاج فى الصباح بسبب بطنه الخاوية وعدم تدخينه الشيشة مع  صديقه سمعان ، إنهما يعملان بساحة القانون ، كان مشغولا هو الآخر مع التجار  والبائعين المتجولين، معظمهم من أرباب السوابق أو العاطلين ، يتمتعون بقوة جسدية ولسان "زفر " يخفون آلات حادة داخل ثيابهم ، لا يلتزمون بقواعد السوق إلا فى حالة الضرورة القصوى ، لم يكن أمين الشرطة سمعان يدقق معهم أو يضايقهم  لا يهمه إذا وقفوا وسط الشارع ببضاعتهم أو المحطة نفسها مادام متفاهما معهم ، الصول سعيد يقَدَّر موقفه ، كان قد أخذ يستعد لتجهيز الفطور ، هذه مسؤليته ، لديه قدره فائقة فى شراء الأشياء بأجور ذهيدة أوبدون أجر ، سواء كان من السوق أو المحلات التى تطوق موقف الركاب من كل اتجاه ، البطون فارغة وكل شىء فارغ ، فى الصباح يندس بين السيارات ملوحا لهم بقلمه ودفتر مخالفاته ، كرشه الممتد إلى الأمام أو لحمه المكتنز لا يعوق حركته ، عندما تنضبط الأمور يبدأ فى التهام فطوره مع صديقه ، تهدأ الأعصاب بعدها وتنساب الابتسامة العريضة على شفتيه، يعكف على الشيشة بينما أمين الشرطة سمعان يدخن السجائر الأجنبية ذات العلبة الزرقاء ، أما الفاكهة فهى أمامه بغير حساب ،  فجأة نفذت داخل خياشيمه رائحة تفاح أمريكانى ، أشاح بوجهه فسقطت عيناه عليه ،كان قد أتى به الفكهانى من توه ، بتنمر أخذت تدور عيناه داخل الصندوق ، التقط إحداها بصورة آليه ، أخذ يقضمها بصوت مسموع ، كان لها مذاق مميز ، لم يتناول مثلها منذ زمن بعيد ، شد انتباهه صرخات متتالية ، كان هناك حصان جامح يجرى بهستريا جارا خلفه عربة كارو محملة بالحديد ، ذات اطارات كبيرة ، أدرك فى تلك اللحظة أن العربجى فقد السيطرة على الحصان ، كانت عربة الكارو دعست امرأة ، بعضا من زبائن السوق يلتفون حولها ، أرغفة الخبز التى حصلت عليها مؤخرا تتناثر حولها ، العربجى فشل فى إيقاف عربته ، الحصان الغاضب مازال يشق طريقه بفوضى ، اختفى من أمام الأنظار ، أحد سائقى التاكسى أمهل خطواته ممعنا النظر فيما حدث ، وقعت عيناه على دماء تندفع من فم المرأة المدهوسة ، توقف أمامها للحظات مفكرا ، كانت ما زالت على قيد الحياة ، سرعان ما اندفع بسيارته هاربا وكأن ثعبانا لدغه ، لقد تذكر ما أصابه منذ بضعة شهور ، كان قد حمل مصاب من الطريق بالصدفة ، لسوء حظه أن المصاب لفظ أنفاسه الأخيرة بمجرد وصوله إلى المستشفى ببضعة دقائق ، ظل محبوسا على ذمة التحقيق مع المجرمين إلى أن تم الإفراج عنه بكفالة ، لقد أقسم منذ تلك اللحظة أن لا يحمل أى مصاب أو مريض معه فى سيارته حتى لو كان أخوه ،كانت المصابة من بلدة قريبة من الموقف ، الصول سعيد أمسك بيدها فكانت باردة ، سأله زميله سمعان:
عملت محضر للمتسبب؟
-لا العربة الكارو ولا الحصان يحملان لوحات معدنية
- اعمل مخالفة للعربجى الهارب
- العربجى ليس له ذنب.....  و ....
قاطعه
- خلاص اعمل مخالفة للحصان
- الحصان مظلوم كمان  لأن الجنان الذى أصابه بسبب نقص الفول والعلف


الباعة تعلو أصواتهم :
- كرنب المحاشى ، ...... البرتقال السكري ، يا مجنونه يا طماطم
توقف قلب المرأة تماما ، انفض الجميع من حولها . قال أمين الشرطة سمعان بأسى:
- ماتت .
عمرها انتهى وخلاص ،......... بالحصان كانت هتموت ومن غيره هتموت برده ،....... أيد الحادثة ضد مجهول
غطاها أمين الشرطة بالجرائد ، جمع أرغفة الخبز المتناثرة حولها ووضعها بجوارها ، أدار ظهره لها متجها إلى السوق.  

الطائر المسحور

عندما يحلق فى السماء يبدو كسحابة سوداء قاتمة ، يحجب الشمس عنهم ، يحيل نهارهم إلى ليل دائم ، لم يعرفوا مثله على مدى قرون فائتة ، منقاره يمتد إلى الفراغ الذى يحتويه ، حوصلته منتفخة فى تحفز ، رأسه صغير خالية من الريش ، يطلقون عليه الطائر الرئيس ، يلتف حوله أسراب من الطيور المسحورة على شاكلته ، يلازموه كظله ، إنهم حرسه وقادته ومنفذين لأوامره دون وعى أو تفكير ، أى معارضون له يزجون بهم فى غياهب المعتقلات ، أو يطلقون عليه شتى أنواع الأمراض الخبيثة أو قتلهم أو نفيهم ، كانت تلك الطيور المسحورة حريصة على جمع المحاصيل والثمار له من أرجاء البلاد ، يحفظها فى خزائنه ، عندما يفقدون سحرهم يعودون إلى طبيعتهم ، يحملون نفس قسمات شعب دولة فاسكوليا المتحدة . يندسون بينهم فيعجزون عن اكتشاف تحولهم ، كانوا يطوقون الميادين ، يسدون الطرقات ، يلاحقوهم فى حقولهم ومصانعهم ، حتى دور عبادتهم ،أيضا رئيسهم الطائر لا يعرفه شعبه إلا بعد أن يفقد سحره ، كانت صوره تملأ الشوارع ، مفروضة عليهم فى التلفاز ، تماثيله تملأ الميادين ، أضخمها تمثال الحرية الذى يربض فى نفس الميدان الذى سمى باسمه . من الصعب أن يراه الناس على حقيقته . كان مشغولا بجمع الأموال التى يحتفظ بمعظمها فى الخارج ، الكل يسارع فى إرضائه  لكف أذاه عنه ، الصيادون يقدمون له الأسماك  ، تجار الذهب يمنحوه السلاسل والعقود ليوشى بها رقبته أو صدره ، محطات الوقود تسارع فى تمويل أساطيل سياراته ومعداته التى استولى عليها عنوة ، الأراضي الشاسعة التى احتلها ......... كل شيء بغير حساب ، المشكلة أن مطالبه وأوامره لا تتوقف ،كل ذلك يتم عن طريق منشوراته
- إذا لم تقدموا له القمح والأرز، و...،و....،و......... سيشرب ماء النهر ،و.....
- أو توردوا له الحليب ،و....،.و......... سيقتل مواشيكم ،و........،و ........
منذ عهد طويل وأمور دولة فاسكوليا المتحدة تسير على هذه النواميس ، يسقط عليهم منشوراته من السماء ، أو يبعثها داخل بيوتهم عن طريق طيوره المسحورة ، ربما يدسوها تحت وسادة نومهم أو فى أماكن عملهم . الطائر الرئيس مَّل هذه اللعبة ، لم يعد يجد فيها لذة أو متعة حقيقية،المصيبة أن شعب فاسكوليا لم يحتج أو يثور ضده ، فى الخفاء يشجبون ويستنكرون ، إنهم ينفذون أوامره صاغرين . قرر أخيرا أن يستفذهم ويخرجهم من خضوعهم واستكانتهم ، لقد أصدر منشورا جديدا :
  إلى شعب فاسكوليا الذليل لقد قررت ووافقت بأن تركعوا أمام تمثالي الكائن بميدان الحرية صباحا ومساء وقبل الأكل وبعده مقابل ضرائب تدفعوها تشريفا لكم وتبركا بعظمتي وإلا منعت عنكم الهواء و
فى خلال ساعات قلائل كان شعب فاسكوليا بأسره علم بأمر المنشور الأخير ، على التو أخذ المسؤولون يهللون ويصفقون على حكمة رئيسهم الطائر وعبقريته ، أيضا الشعب الفاسكولى قام بمظاهرة تأييد لرئيسهم الملهم ، كان يتابع بنفسه تلك التظاهرات من خلال التلفاز الفاسكولى ، انتابه حزن بالغ ، كاد يجن من هذا الشعب الفاقد لإحساسه ، ظن أن اللعبة ستكون من طرف واحد مثل كل مرة لولا أن نهض معارضون يرفضون ويثورون . فى البداية ظن أن هؤلاء الثائرين ليسوا من شعب فاسكوليا . أكدت له عيونه وجواسيسه فيما بعد أنهم شرزمة صغيرة ضالة. شغله هذا الأمر كثيرا ، تعجب لتغير هذا الشعب فجأة دون مقدمات ، أمر رجاله بعمل دراسة مستفيضة لمعرفة هذا التغير . أدرك فيما بعد أن اللعبة هذه المرة قد اكتملت ، أصبح للمعادلة طرفان ، يجب وزنها حتى يكون التفاعل مثمرا . سيُصب غضبه عليهم حتى يؤكد هيمنته وجبروته . إنه الطائر الرئيس ،  لا قبله ولا بعده ، لقد واتته اللحظة التى كان ينتظرها ،قبل أن يهاجمهم فاجئوه هو وطيوره المسحورة ، أحرقوا منشوراته بغتة ، كانت مكدسة فى أرجاء البلاد ، تطاردهم أينما يولوا وجوههم ، أضاءت النيران سماءهم وأرضهم . أصاب لهيبها ريش طيورهم المسحورة . فقدوا توازنهم ، تعثروا فى طيرانهم ، أخذوا يترنحوا ، لاحقوهم ، كان فى المقدمة عم أحمد الفلاح وسيد إبراهيم الموظف والشيخ صابر والقس ميخائيل وعم فاضل الحداد . منهم من يمشى على قدميه أو يركب دراجته أو سيارته أو ....، أو
اختفت الطيور المخادعة بين أجنحة الدخان الأسود الكثيف المتصاعد من تلك المنشورات ، رائحتهم العفنة فضحت أمرهم ، ساعدتهم على اقتفاء أثرهم ، أخذت الطيور المسحورة  تجأر مفزوعة ، فقدوا سحرهم الرهيب ، ظلوا يتساقطون تباعا ، ما زالوا يتابعون فرارهم الفاضح بثقة واطمئنان .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق