الثلاثاء، 25 يناير 2011

قصة قصيرة بعنوان( البيت الكبير )

" بعد أن عرف الحمار كل شىء هل أدرك أن البيت الكبير أصابه الخراب والدمار ! هل سنظل خانعين مستسلمين دون أمل أو هدف ! أم مازال الحلم يداعب جفون الأجيال القادمة . سنعرف ذلك من قصة البيت الكبير "

قصة قصيرة بعنوان البيت الكبير
بقلم الأديب / على على عوض

هبت مفزوعة من ثباتها على دوى طلقات نارية وصرخات استغاثة آتية من التلفاز ، تداخلت مع ضحكات ابنها المتوحشة .كان منهمكا فى متابعة المسلسل الأجنبي ، مدت الأم عيناها المنتفختين نحوه باستنكار ، تلبدت بمخيلتها أفكار سوداء ،تمخضت عن بعثرة نظرات فاحصة حولها بفوضى . كان النوم ما زال يداعب جفونها ، بلهفة شدت أرجلها بحثا عن حفيدها ، دائما يلازمها كظلها رغم تحذيرات والده ، بخطوات ميته تأرجح جسمها النحيل على غير هدى ، تسارعت  نبضات قلبها الواهن ، ظهرها المنحنى يعوق تقدمها ، تجاعيد طاعته استولت على وجها المنكمش داخل نفسه ، تاهت بين طوابير حجرات البيت المطلة على الصالة الممتدة ، أخذت عيناها تفتش فى كل شيء حولها ، أوقفتها صورة ابنتها الذابلة المثبتة فى صدر الصالة . كانت قد هجرت البيت منذ زمن بعيد كما هجره الآخرون ، لم يبق منهم غير ابنها الأكبر عشماوى ، تطلعت نحو صورة ابنتها بشرود ، لفت انتباهها أن الفئران أكلت أجزاء كثيرة من رأسها ، تحسستها بحنان ، فجأة اندفع من خلفها فأر ضخم الجثة ، خيل إليها أنه قط يرتدى ثوب فأر . كانت تلك الفئران الخائنة تأت من بيوت الغرباء ، تابعت هروبه بقلق واضح ، اختفى بين الحجرات ، ظنت أنه اقتحم حرمات حجرة ابنها صابر المغلقة على نفسها منذ زمن بعيد ، تفحصت واجهة بابها ، بادرتها الشكوك والظنون عندما اكتشفت تآكل جزء كبير منه مختفى عن العيون ، بعصبية أخرجت من جيبها جيش جرار من مفاتيح حجرات بيتها الكبير ، بيد مرتعشة فتحت باب الحجرة . كان الضوء شحيحا بها ، تذكرت أن قدميها لم تطأها منذ أن قادوه هناك ، فاجأتها تماثيل لأفراد عائلتها كادت تمحى من ذاكرتها . كان قد نحتها بنفسه لأفراد عائلته جميعا ، جذبها تمثال ابنها الأكبر عشماوى ، تآكلت بعض أجزاء من صدره، عيناه تدور بتنمر ، كان عاريا من ملابسه ، أشاحت بوجهها بعيدا عنه فسقطت نظراتها فوق جدار جانبى ، كان منقوشا عليه تاريخ عائلته ، مرصع بزخارف هندسية بارعة ، صور أخرى متراصة على الجدار المقابل له تفضح ما خفى عن الأعين ، أفنى فيها سنوات طويلة  قبل أن يسوقوه هناك ، أصوات المارة بالخارج ألحت عليها لفتح نافذتها المغلقة منذ زمن بعيد ، زكمها رائحة عفنه آتيه من بيوت الغرباء التى تحاصر بيتها ، دائما يلقون بقمامتهم  وقاذوراتهم فى وجهه ، تسللت بقع من ضوء الشمس داخل الحجرة استقرت فوق مكتبته ، فضحت جيوش التراب المعتدية التى احتلت جسدها فى غفلة من الزمن ، جالت بعينيها بين كتب المكتبة . كانت الفئران الخبيثة التهمت كثيرا من صفحاتها ، اشتعلت كراهيتها لتلك الفئران . لم تظهر إلا بعد أن استعمر الغرباء كثيرا من بيوت الحى التى أصبحت تحاصر بيتها, بهستريا أخذت تطرق طرقات متتالية فوق جسد المكتبة الصريع طمعا فى بث الرعب فى قلوبهم ، تصبب جسمها الهزيل بالعرق  ، توقفت عن طرقاتها بعد ما أحست أنهم غير عابئين بها ، مدت بنظراتها عبر النافذة، بيوت الغرباء متصدعة من الداخل ، انطلق الفأر الغريب فجأة من بين الكتب مباغتا الجدة ، تابعت فراره بعينين فاحصتين ، مرق من حجرة ابنها عشماوى ، فى الأيام الأخيرة أصبحت الفئران تختفى خلف التلفاز ، بغيظ قبضت على عصاه خشبية سميكة أعدتها لتلك الفئران المغيرة . كان ما زال ابنها يتابع المسلسل الأجنبي مع زوجته التى انضمت إليه أخيرا، رمقتها بنظرات ملوثة وهى تمر من أمامها ، دفعت الجدة عصاها بمهارة داخل جحر مظلم وعميق يختفى خلف التلفاز ، إنها تظن أنه جحر الفأر ، لم تخب ظنونها ، صرخ الفأر صرخة مكتومة ، ضاعت بين صرخات التلفاز وقهقهات ابنها عشماوى ، أدركت بفطرتها أن الجحر يؤدى إلى حديقة البيت خارجا ، هزت رأسها باستنكار ، غادرت الحجرة فى صمت ، سددت إليها الزوجة نظرة حادة من الخلف ، كانت من الغرباء الذين استوطنوا البلدة ، طوت الجدة أفكارها وهى تمر من الباب الكبير المؤدى إلى حديقة البيت . الفئران ترعى فى أرجائها، أصبحت شجيراتها هرمه ، كادت تتصلب شرايينها ، تهاوت أعشاش الحمام والأرانب ، أصبحت مطمعا للغرباء ،أخذت الجدة تتطلع بعيون ثكلى على أطلال حياة فائته ،ذاكرتها متخمة بأشجار الكمثرى والبرتقال وصغار أرانب تلهوا بثقة واطمئنان .كانت الشمس تتهيأ للرحيل ، قطة مباغتة تستعد لاقتحام بيوت الأرانب المنهارة . كانت القطط اتخذت الفئران صديقة لها ، هربت القطة المعتدية بمجرد أن وقع نظرها على الطفل الصغير . كان يقبض على حجر صغير فى حالة تأهب
احتضنته الجدة بعنين متلهفتين ، نسيت أنها كانت تبحث عنه . كان يلازمها عندما تطعم طيورها ، تحكى له حكايات قديمه عن العداء المستحكم بين القطط والفئران والبيت الكبير وأشياء أخرى، فشلت كل محاولات أمه لنزعه عنها ، كانت تراقبه بوجهها العابث من خلف نافذة حجرتها الضيقة المطلة على الحديقة ، أخذت الجدة تعيد ترتيب قميصه وبنطاله من جديد ، صرخت الأم مهددة
-كفاية يا خالد ... أنت وسخت نفسك و..........
أخذت ترغى وتزيد بكلمات حادة ، وضع زوجها عشماوى يده على فمها لمنع تطاير شظايا كلماتها الجارحة ، سقطت تحت أرجل الجدة. كان خالد يتطلع لأمه بنظرات حارقه ، صكت نافذتها بدوى هائل ، عاود زوجها استمتاعه بالمسلسل الأجنبي ، تعالت ضحكات طفلها فجأة حينما قفزت الأرنبة السمراء ملتقطة عوداً من الخس معلقاً فى فرع شجرة دان منها ، كانت دائما تخفى صغارها بعيدا عن القطط والفئران بعد أن تآزرا معا واتفقا عليهم ، لقد أقسم ابنها صابر بأن يقضى عليهم جميعا قبل رحيله القهرى . ما زالت تلك الليلة السوداء محفورة بذاكرتها
اقتحموا حرمة البيت فى الظلام . كمموا فاه . سحبوه بعيدا عن العيون
عندما صرخت فى وجوههم قال لها ابنها عشماوى وهو ينفث دخان سيجارته باستهتار
- ابنك مجنون ....
لم يعد إلى بيته منذ تلك الليلة . عزلوه عن الجميع حتى لا يسبب العدوى للآخرين ، انقطعت أخباره عنها تماما .
تداعى إلى أذنيها حفيف أقدام خلفها ، استدارت على الفور ، وقع بصرها فوق القطة . كانت تنحدر إلى سلالة الثعالب ، ليس لها لون واضح ، دائما تتحين الفرصة لالتهام صغار الأرانب الرضع التى لم تفتح عيونها على الحياة بعد ، كانت تختفى بين أوراق الأشجار المتسلقة فوق سور الحديقة .  أخذت الأرنبة السمراء تضرب برجليها فى الأرض احتجاجا وتحذيرا لصغارها ،تحفزت القطة الغادرة للهجوم ، قبضت الجدة على عصاها الخشبية فى حالة تأهب . كان حفيدها يتابعها بعينين حذرتين ، أصبحت القطة أكثر اقترابا من الأرنبة السمراء ، فى لحظات خاطفة  قفزت القطة فى الهواء بغتة ، باسطة مخالبها وأسنانها ، سال الدم من وجهها ، هربت الأرانب إلى جحورها دون أن تتمكن منهم القطة المعتدية ، قذفها خالد بحجر كان قد أعده لها، أخطأ رميته ، أصاب وجه نافذة حجرة أمه ، أحدثت دويا هائلا ، هربت القطة مذعورة قافزة فوق سور الحديقة الذى يفصل البيت الكبير عن بيوت الغرباء . كانت مخالب الأرنبة السمراء أصابتها فى وجهها ، تابع خالد هروبها بنظرات صارمة . كانت قسمات وجهه تتشابه مع قسمات وجه عمه صابر عندما يكون ثائرا ، اختفت القطة بين الأعشاب المتسلقة . كانت الأم تتطلع من خلف نافذتها  الضيقة باستنكار ، شفاهها مطبقة ، عيناها شاخصتان ، كان شظايا بقايا من الزجاج المتناثر أصاب وجهها . زوجها ما زال يتابع المسلسل الأجنبي . قفزت الأرنبة السمراء بشموخ نحو أولادها . كانت الجدة تحتضن حفيدها بعد أن استعادت قواها الضائعة ، رفعته عاليا فى الهواء بيدين ثابتتين ، أحست أنه يرفرف سماء البيت الكبير . فرغ الزوج من متابعة المسلسل الأجنبي.                                


هناك تعليق واحد:

  1. تسلم ايدك استاذ على ، شكرا على الأسلوب والفكرة

    ردحذف